حول ديوان : القمر نورك
عارف يا شنقراي الظاهر نحن جايين في الزمن
الضائع
بقلم :
بدرالدين حسن علي
هناك فيلم في السينما
المصرية بعنوان " الإنسان يعيش مرة واحدة " بطولة النجم عادل إمام ،
الفيلم لا يعنيني في مقالي هذا , ولا يعنيني موضوعه "الهايف " وإنما يعنيني اسمه ، فقد
جلست قبل أيام إلى أخي وصديقي حسين شنقراي جلسة صفاء غير عادية ، وما
أن غادرني حتى أذرفت دمعا حارقا من خلائقه
الكبر لحالته تلك ، عندما تعرض قبل سنوات لحادث مروري نجا منه
باعجوبة إلهية ،وهو الآن يقول بالفم المليان " الإنسان يعيش مرتين " و
" أفهموها زي ما عايزين ؟ " ولكن الحادث خلف تأثيرات عاصفة مؤلمة ما يزال
يعاني منها فنسيت تماما ما أصابني ، ورغم التكاليف الباهظة التي دفعها شنقراي ،
إلا أن الحسنة الوحيدة – لو كانت هناك توجد حسنة في مقارعة الموت – أنها أنجبت لنا
شاعرا شفافا رهيفا رهافة أوراق الزهر والورد ،ورهافة الفراشات التي تمتص الرحيق .
وبمثلما إنفعل د. النور نادر النور عثمان بقصائد شنقراي في المقدمة التي
كتبها للديوان ، وبمثلما إنفعل الشاعر الفنان
التشكيلي عبد العظيم ابراهيم "
جوجوي " برسوماته وصورة الغلاف التي تعمد فيها إستخدام اللونين
الأسود والأبيض ، إتشحت حياتي بالسواد ،
فسرح خيالي " المخطوف من زمن ! " مع قصته ومع أسرته النبيلة زوجة وأبناء
.
دعوني أولا أبدأ بالمقدمة
الرصينة والتي لسوء حظ النور تكررت فيها الأخطاء والتي عادة ما نسميها "
أخطاء مطبعية " ولا أدري متى تتوقف هذه الأخطاء " الرذيلة " ، مثلا
في صفحة 6 قرأت كلمة " أذى " وأظنه يقصد " الذي " فتغير
المعنى تماما ، أو كلمة " الؤلؤ " في صفحة 7 وهو يقصد اللؤلؤ فشوه الخطأ
المطبعي التعبير الراقي " اللؤلؤ النضيد " ، وأنا أتضايق كثيرا من مثل
هذه الأخطاء التي ينبغي أن يراعى فيها الدقة المتناهية ، لأنها ليست مسؤولية كاتب
المقدمة ، وكثيرا ما صرخت مطالبا بالدقة !!!وبدون فذلكة و" رغي كتير "
المقدمة نفسها كانت " قصيدة " لله درك يا النور .
أكثر ما لفت
إنتباهي في الديوان وهو ما لفت إنتباه كاتب المقدمة " إحتفاء الشاعر الحزين
" على فراق قامات مثل " زيدان ابراهيم ، عبدالغفار الأمين ، محمد وردي
ومحمد الحسن سالم حميد ، ولا أدري لماذا غابت أسماء مثل نادر خضر ومحمود عبدالعزيز
؟ ومع ذلك يبقى رائعا جدا ووفيا جدا أن ينثر الشاعر أحزانه في شكل قصائد "
رثاء ولوعة " بحق تلك القامات التي
رحلت عنا في زمن "التشويه والميكياج الزائف و القحط الثقافي والفني ، ولا
أدري أيضا لماذا لم يفهرس الشاعر قصائده في مستهل الديوان ؟ وهي باعتقادي مسألة
هامة جدا وربما تكون هي المرة الأولى التي يتم فيها تجاهل الفهرسة ، أرجو أن يراعي
هذا في الطبعة الثانية .
وفي جميع هذه
" المرثيات " جففت دمعات شنقراي بورق " الكلينكس " الذي كان
أمامي وربما " نشفت " دمعاتي " أنا .وتساءلت كما تساءل الكاتب
المسرحي العظيم أنطون تشيخوف في مسرحيته الشهيرة " الشقيقات الثلاث " هل
يا ترى الناس سيذكرون أولئك الراحلين بعد مائة عام ؟
الديوان
بالعامية السودانية أهداه شنقراي " لكل من يلهث في هجير الغربة سعيا لتوفير
لقمة عيش تسد رمقه " كما قال ، لم يهده لزوجته النقية المكافحة ، ولا لأي من
أفراد أسرته الرائعين ، وقد أعجبني تعبيره الشفيف عندما وصف ديوانه بأنه "
إتكاءة عصاري " للوطن " الجريح " و" دي من عندي " ،
إعترافا وعرفانا لما قدمه لنا الوطن العظيم " وبرضو دي من عندي " .
وأظن أن مسألة " الوطن "
عند شنقراي هي بيت القصيد ، فهو مفتون بالوطن بشكل غير " إعتيادي "
بعناقريبه ونيله وطينه وقهوته وشطآنه مثله في ذلك مثل شعرائنا الذين وضعوا الوطن
في حدقات عيونهم ، ومن الواضح جدا أن الشاعر مفتون بسطوع الشمس :
غاب النجم
غابت معاهو
سحابة
والضل
إنقشع
ساطعة
الشمس تقابة
ومفنون
أيضا بنور القمر :
الليل بلاك
ضلام
بدد غيمة
الأيام وانت القمر نورك
الشاعر لا يعنيه ما يقوله
رجال الفضاء عن القمر ، فالقمر عنده ما يزال ذلك القمر المضيء : قال الله تعالى
" هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا " وقال " الشمس والقمر
يسجدان فبأي آلاء ربكما تكذبان "
ويبدو لي أن شنقراي ينام
وتحت " مخدته " القمر بينما الشمس تسطع فوق سقف غرفته ، وكأنما يهدي
القمر للوطن ولحبيبته " المتخيلة " كما قال النور ، فالشاعر لم يقل
" النجم نورك " ولا قال " الشمس نورك " وإنما قال "
القمر نورك " ذلك أن نور القمر من نور الحبيب ونور الوطن ، فالله تعالى جعل
" الشمس ضياء والقمر نورا " وأنا حتى الآن لم أستوعب الدقة الإلهية في
التفرقة بين ضوء الشمس ونور القمر كما جاء في كل الآيات القرآنية التي تناولت
الشمس والقمر ، ولذا حق لشاعرنا أن يسمي ديوانه " القمر نورك " يا قمر
دورين ، أنا شفتك وين ؟ وكل ديل في وطني بريدك يا وطني
وكا قلت
سابقا الديوان بالعامية السودانية ، وأنا شخصيا ما زلت أقرأ أشعار الفنان الكبير
صلاح جاهين بكثير جدا من الدهشة والإعجاب ، قال عمر الدوش : أمتع نفسي بالدهشة
! وكثيرا ما أتساءل لماذا يعتبر جاهين
نفسه مسؤولا عن هزيمة 1967 ؟ ولماذا يعتبر حسين شنقراي نفسه مسؤولا عن مجيء "
الإنقاذ ؟ ولماذا يردد شعراء العامية في السودان ولا داعي لذكر أسمائهم : الضل
الوقف ما زاد ؟
أقرأوا قصائد جاهين
" صورة " مثلا : واللي حيبعد من الميدان عمره ما هيبان في الصورة ،
وأقرأوا قصائد الدوش وهاشم صديق ومحمد الحسن سالم حميد وأزهري محمد علي "
الصباح الباهي لونك وضاحة يا فجر المشارق ، طرزت ليك النيل زفاف وحرقت ليك الشوق
بخور " ودسوقي وروضة الحاج ومنى الحاج وغيرهم .
أعتقد أن شعر العامية
استطاع أن يحتل مكانته في خريطة المتن الشعري العربي بتفوق شديد ، لذا من حقنا أن
نحتفي بواحد مثل حسين شنقراي ، وأكاد أن لا أبالغ إذا قلت لكم أن شنقراي إمتلك
ناصية البوح الشعري والبعد الجمالي ، لقد إستطاع أن يبرز العامية السودانية من أول
قصيدة وحتى آخر قصيدة :
لو إنت
بلادك مخليها
كيفن من
بعدك بنجيها
سفرة أيه
دي الناويها
"
قصيدة مسافر ليه "
الليلة وين
يا الزين
فايتنا
رايح وين
معاك عشنا
سنين
كم كنا
متآلفين ليه خليتنا حزنانين
جمعا عليك
باكين
قصيدة
" الزين القيافة " في رثاء أخي وصديقي الراحل المقيم الصحفي المميز زين
العابدين أحمد محمد ، وأنا حقيقة أشكر شنقراي على هذه القصيدة وأشكر وفاءه للزين .
وهذه قراءة
سريعة لبعض القصائد التي وردت في الديوان : تلفت الإنتباه بشكل خاص قصيدة رأس
السنة والكريسماس لأنهما وقفة شجاعة وواعية من أجل وحدة الوطن ، غلى جانب أن
الكلمات التي إستخدمها شنقراي أبتعدت تماما عن العبارات الرنانة الطنانة التي
إعتدنا عليها في مثل هذه القصائد ، كلمات بسيطة جدا لكنها نابعة من القلب ، وقد
كان شنقراي موفقا جدا في ختام قصيدة رأس السنة عندما قال :
إنت ليا
وليك أنا
يا أحلى
زول
في رأس
السنة
أما قصيدته
" الكريسماس " فحقيقة قد أبدع فيها الشاعر ، ففي أبيات قليلة صور كل
المشهد الفرائحي والحزين ، قصيدة ملأى بالحب والتسامح ، خليط من البهجة والحزن ،
وأيضا ختام رائع :
وأطفالنا
يضو زينة
نرقص نغني
نفش غبينة
وقد أحسست فعلا أن شنقراي " فش
" غبينته .
هناك أيضا
قصيدته " يا نساي " روعة " وتنقط عسل ، خاصة عنما يقول : يا نساي
أصلي بريدك ساي .
الديوان
تتنوع قصائده ما بين غناء الحقيبة والغزل الصوفي والشجن و" الجرسة "
الشديدة ، ولكنها " جرسة " الكبار ، مثلما جاء في قصيدة " لو سألتك
" :
يوم غيابك إنت طال
العيون
رسمت سؤال
والحزن شال
الفرح
وحالي أصبح
يا ما حال
والصباح لو
فجأة طل
يبقى شاف يا
روحي لونك
" شعر
يقطع المصارين " ، وربما أعود لهذا الديوان في مرة قادمة .
أنا أعرف أن شنقراي من
الشرق وكثيرا ما حدثني عن طفولته وعن أدباء وكتاب وشعراء الشرق كما حدثني عن كسلا
ونهر القاش اللي " صابو المحل " وحتى الجبل لو فكر رحل !!!
بإمكاني أن
أكتب صفحات وصفحات عن ديوان " القمر نورك " بوبا عليك تقيل يا القمر
بوبا ، ولا أريد أن أستعرض جميع قصائد
الديوان كي لا أفسد متعة القراء والإستمتاع بالموسيقى وحيوية القصائد وديناميتها
وقدرتها على أن ترتقي بنا إلى درجات عليا من الفهم والإستيعاب ، خاصة في "
المرثيات " يعني باختصار شديد شنقراي شاعر صاحب رؤية ، قرأت ديوانه "
القمر نورك " عدة مرات ، كما تابعت قصائده عن الثورة والمظاهرات التي عمت
العاصمة والأقاليم وهمته في جمع المال ، وبحثت عن إجابة لعلاقة الشعر بالثورة ،
وعلاقة الشاعر بالثورة ، لم أصل إلى إجابة ، فشنقراي غاضب جدا ، وبمعنى أصح غضب
عنيف وسخط شديد على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية ، وكل ما
أخشاه على شنقراي أن تتحول تلك العواطف النبيلة الهادرة في قلبه الطيب إلى سكتة
قلبية !!!
الله معاك
يا خوي !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق