السبت، 9 فبراير 2008

مصطفى سيداحمد

مصطفى سيداحمد ... الرحيل النبيل والغناء الجميل

2من2
شيد لنا صوامع للفرح وفتح لنا مسارح للمرح
من هو مصطفى سيداحمد ؟
لماذا نكتب عنه كل عام ؟
لماذا نظل نذكره في كل مناسبة ؟
لماذا كلما مر السابع عشر من يناير يتقطع حشانا وتدمع عيونا ؟
لماذا هذا الحب والعشق لذاك الإنسان وذاك الغنا؟
من هو مصطفى سيداحمد .. من هو هذا الشاب الوسيم ذو النظرات الرقيقة والقلب الكبير والوجه الذي ترتسم عليه خريطة الوطن وأحزان الناس وأفراحهم ؟
من هو هذا الفنان الذي كلما نظرت إلى وجهه ترى أطفالاّ ونساءّ وشباباّ وشيوخاّ .. وترى الشهداء والأحياء .. ترى كل الوطن ؟
من هو هذا الفنان المبدع الذي شغل الدنيا والناس بأغانيه

في حلقة سابقة تحدثنا عن بداياته الأولى إلى أن وقف مغنياّ صداحاّ وسكن في قلوب الجماهير التي أحبته وعشقته وحتى رحيله المبكر تاركا لنا بثينة وسامر وسيداحمد وثروة من أروع الأغنيات .
نعم رحل مصطفى تاركاّ 450 أغنية .. والبعض يقول أكثر من ذلك ، ولعله الفنان الوحيد الذي غنى لعدد كبير من الشعراء المعروفين والمغمورين والمجددين .. فقد غنى لهاشم صديق ، عمر الدوش ، أزهري محمد علي ، أبو ذر الغفاري ، نجاة عثمان ، صلاح حاج سعيد ، يحيى فضل الله ، حسن بيومي ، محمد الحسن سالم حميد ، قريب الله محمد عبدالله ، قاسم أبو زيد ، خطاب حسن أحمد ، عاطف خيري ، محمد المهدي عبدالوهاب ، الفرجوني ، الصادق الرضي ، محمد طه القدال ، بشرى الفاضل ، عوض مالك ، جمال حسن سعيد ، تاج السر عثمان ، محمد إبراهيم شمو ، عبدالعال السيد ، مدني يوسف النخلي ، حسن ساتي ، عبدالوهاب هلاوي ، عبدالقادر الكتيابي ، الصادق الياس ، حافظ عباس ومعذرة لمن خانتني الذاكرة ولم أذكرهم ، كما غنى لشعراء عرب مثل نزار قباني ومظفر النواب ومحمود درويش .
في كل إختيارات مصطفى سيداحمد لأغانيه نجد سحراّ خاصاّ في كل أغنية وهذا يعود إلى موهبته في الشعر والرسم ، فهو شاعر مرهف وإحساسه عميق بالكلمة وقدرة هائلة على إستكشاف روح القصيدة وتقديمها بأسلوب السهل الممتنع ، فهو يجعل المستمع سجين لحنه ، فأنت لا تستطيع أن تقدم أغنيته إلا باللحن الذي إختاره كما أن صوته الذي يوصف بأنه من فئة باريتون وهو نوع من الصوت البشري أكثر غلظة من التينور وأكثر حدة من صوت الباص ، وهنا تكمن صعوبة تقليد صوته .
مصطفى سيداحمد رغم رحيله المبكر إلا أنه ظاهرة فنية فريدة ومتفردة .. واسم عملاق يضاف إلى عمالقة الطرب في السودان الذين عرفهم كتاب التاريخ الموسيقي والغنائي إبداعاّ وخيالاّ وجمالاّ وإحساساّ وشفافية وخلوداّ .
أزهري محمد علي كتب له قصيدة " وضاحة " يقول فيها :
الصباح الباهي لونك
وضاحة يا فجر المشارق
غابة الأبنوس عيونك
يا بنية من خبز الفنادك
هنا الشاعر يصف وجه حبيبته بلون الصباح الباهي .. وما أجمل الصباح .. ويقول أنها وضاحة .. ويخلط الصفات في وصفها مثل الفجر وغابة الأبنوس وطعم الخبز .
وفي حالة من الوجد الشديد يقول :
شيدتي في جواي صوامع من الفرح
وفتحت في دنياي مسارح للمرح
هذا التعبير الجميل عن صوامع الفرح ومسارح المرح ، كل هذا العالم الجميل شيدته وفتحته الحبيبة في قلب هذا العاشق الولهان ، أليست الحبيبة هي الوطن ؟؟؟
ليس ذلك فقط فهو يقول :
وبقيتي لي سكة وعيون
فهو الآن يرى بعيونها وتهديه إلى الطريق
لا قدرت أطولك شان أجيك
لا قدرت من غيرك أكون
هذه هي حالة العشق والإندماج الكامل عندما يفنى الحبيب في محبوبته .
ويأتي إلى تعبير بسيط يأتي على لساننا مرات ومرات كل يوم عندما نقول مثلاّ " والله أنا عندي كلام كتير ما قادر أقولو " فيقول الشاعر
وأنا بيك ماليني الكلام
هذه هي بلاغة الشعر وعذوبته
ثم يجنح الشاعر ويترك خياله يسبح في عالم من الكلمات المختارة بعناية فائقة فتتحول الكلمات إلى ما يشبه المعجزات
حركت بيك عصب السكون
هنا الشاعر يتخيل أن للسكون عصب ، وقد حرك هذا السكون بحبيبته إلى أن يقول :
جلبت ليك الغيم رحط
طرزت ليك النيل زفاف
حرقت ليك الشوق بخور
وفرشت ليك الريد لحاف
ما من كلمة في هذه الأبيات إلا وأعطت صورة من الصعوبة بمكان أن تتاح لأي شاعر ، فتخيلوا معي كيف أن الشاعر جعل من الغيم رحط وطرز النيل ثوب زفاف لحبيبته ... أما البخور فهو الشوق الذي إحترق في مبخر العشق .. ثم فرش لها لحافاّ لتنام عليه وهو لحاف الريد ...
جلبت ليك الغيم رحط
طرزت ليك النيل زفاف
حرقت ليك الشوق بخور
وفرشت ليك الريد لحاف
لا السكة بيك بتنتهي
ولا معاك مليت طواف
يا ريتني لو بقدر أكونك
وضاحة يا فجر المشارق
الصباح الباهي لونك
يا بنية من خبز الفنادك
غابة الأبنوس عيونك
وعندما يغني مصطفى هذه القصيدة تجد نفسك في عالم من الخيال والسحر والجمال والنور الأخاذ .
لقد تغنى مصطفى بعشرات القصائد في وصف الحبيبة والتي يخلطها دائما بالوطن ، لأنه مسكون بحب الوطن إلى درجة الجنون ، وقد لاحظت عندما صدر كتاب " فجر المشارق " كتب في الإهداء " إلى كل ذرة من تراب الوطن الغالي مبللة بعرق الطيبين المحبين .. تنبت من بين الوجدان الصادق أزهاراّ تفوح طيباّ مسكوباّ من عبير رواد الكلمة .. أصدقائي الذين طوعوا الحرف للبلد العزيز "
نعم هو فنان مسكون بحب الوطن ، وها هو الشاعر هاشم صديق يقول :

حاجة فيك
تقطع نفس خيل القصائد
تشده أجراس المعابد
هنا الشاعر يتخيل أن للقصائد خيول " نفسها " إنقطع " بحاجة لم يفصح عنها الشاعر صراحة تتميز بهل حبيبته .. والتي هي الوطن
ويقول
تشده أجراس المعابد
يا الله .. نحن نعرف أن أجراس المعابد والكنائس تشده الناس . فما هي تلك
تلك " الحاجة " في الحبيبة التي تشده أجراس المعابد .
لذا يئن الشاعر ويتوجع
توهتني .. تعبتني .. جننتني
جننت حرف الكلام
وبرضو أدتني السلام
وما أروع مصطفى عندا يردد شرف المدائن والسفاين والمناجم والموانئء .
حاجة في شرف المدائن
في غرف كل السفائن
جوه في عمق المناجم والعيون
حاجة زي ما تكون محلق في العواصف
وفجأة تهبط في السكون
حاجة زي نقر الأصابع
لما ترتاح للموسيقى
حاجة زي أخبار تناغم من جريدة
حاجة زي وتر الموانيء
لما يصدح لسفينة
ثم " يغلبه " الكلام .. لا يستطيع التعبير عن المشاعر الجياشة في داخله .. فيهدأ ويقول :
حاجة فيك لا بتبتدي
لا بتنتهي
خلتني أرجع للقلم
أتحدى بالحرف الألم
وأضحك مع الزمن العريض
وأنسف متاريس الطريق
وأعرف متين أبقى المطر
وأعرف متين أصبح حريق
أنت يا هاشم لم تتخل يوما عن القلم .. دائما كان قلمك " مسنون" كما السيف والقرطاس والقلم ، ودائما كنت عبوة ناسفة للظلم والقهر وكنت مطراّ وحريقاّ كما كنت بلسماّ .
ومصطفى دائماّ كان قلمه وسيفه وعبواته الناسفة ذلك العود الذي يحمله بين يديه يتحدى به الألم والمرض والعذاب والمعاناة يضحك ويغني مع الزمن ومع كل الناس
وهنا يطل أبو ذر الغفاري :
في عيونك ضجة الشوق والهواجس
ريحة الموج البنحلم فوقو بي جية النوارس
ياما نحلم نحكي ليكي عن المسافة
ونشتهيك
عن سفن بالشوق بترسم في بحيراتك ضفافها
عن ملامح غنوة هلت في عيونك هتافها
عن حقيقة نهاتي ليها في أساطير الخرافة
هذا هو الشعر الخرافي وذلك هو الغناء الخرافي
والله نحن يا مصطفى مع الطيور الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر نمشي في كل المدائن نبني عشنا بالغناوي ننشد درر والربيع يسكن جوارنا والسنابل تملأ دارنا والرياحين والمطر ، فنم هانئاّ فما زلنا نردد معاك والله باكر يا حليوه نمشي في كل الدروب الواسعة ديك والرواكيب الصغيرة تبقى أكبر من مدن .




ليست هناك تعليقات: