رسالة ثلجية وهموم سودانية لعموم المثقفاتية بدأ الثلج يتساقط في كندا مبكراّ على غير عادته ، وقبل تساقطه هذا تساقطت كل أوراق الأشجار التي كانت مفرهدة مزهوة بلونها الأخضر تعطي للحياة معنىولتحقيق الأماني أمل ، الآن توهط اللون الأبيض ونزل وسكن فوق كل البيوت والشوارع والميادين والحدائق ، دوائر ومربعات ومستطيلات من الطباشير الأبيض على مدى البصر ، من النافذة لا شيء يوحي بالحياة سوى من حين إلى آخر تتحرك بعض الأجسام في هزال وتعب شديد ، لا شيء يوحي بأن هناك ثمة هدف ، فهذا بتعبير مهذب وقت الكسل ، ولكنه في حالة مشابهة وقت الموات والإختفاء ، يسمونه في لغة الأدب وربما السياسة البيات الشتوي . عاندت نفسي وجلست تحت زمهرير الثلج أعود بالذاكرة إلى سنين خلت ، تعمدت أن تكون العودة بلا ترتيب زمني ، وإنما قفزات فوق العقود والحقب مشحونا بذاكرة متعبة من الجلد والقهر والمنفى ، مر شريط سينمائي طويل يعرض صوراّ باهتة لوجوه دخلت التاريخ ولم تخرج ، ووجوه خرجت من التاريخ قبل أن تدخل ، ووجوه منعت من الدخول وأخرى منعت من الخروج وبعضها تراوح بين الدخول والخروج ونشبت معركة بين كل الوجوه واجتاحتني عاصفة من الهوس ورغبة مكتومة في الإنتحار ورغبة اخرى في المقاومة، الموقف كان صعباّ . بدا لي أن الزمن في السودان يحفل بالموت وتقل فيه الحياة ، وأننا مجموعة كبيرة من المنافقين والكذابين أحياء ولكننا موتى ونعيش على صدقات أحياء ولكنهم موتى ، وليس أمامنا سوى أن نرفع شعارات هي في النهاية جلد الذات ، نحن بصراحة نجيد صناعة الموت ، ولنا سجل طويل غير مسبوق في موت المبدعين المبكر .... من التجاني يوسف البشير ومعاوية محمد نور والمجذوب ومحمد عمر بشير وصلاح أحمد إبراهيم وخالد الكد وليلى المغربي وخوجلي عثمان ومحمد رضا حسين وأحمد عاطف وأحمد قباني وجيلي عبدالرحمن وأحمد الجابري ورمضان زايد وعبد العظيم حركة وأحمد المصطفى وعبد العزيز العميري ومصطفى سيداحمد وحورية حاكم وعلي عبدالقيوم وعمر الدوش و..و.. قائمة طويلة من الموت المبكر ، ليس بسبب المرض وإنما بسبب القهر والحرقة على البلد !!!!!!! ويا لحظ السودان يموت الشعراء والأدباء والفنانون وكبار المثقفين مبكراّ ويعمر السياسيون يرأسون أحزابنا ويحكمون بلادنا عقود وعقود وما يزالوا يحلمون ليس بحسن الخاتمة وإنما بصفقة مال تزيدهم وجاهة . وها هم مفكرونا وكتابنا وشعراؤنا وطليعة مثقفينا يغسلون الصحون في لندن ، ويكنسون الشوارع في باريس ، ويجمعون القمامة في واشنطون ، وتطحنهم مصانع الأسمنت و البلاستيك في كندا ، ومن حالفه الحظ يعيش مطعونا في الشرف والكبرياء بدنانير ودراهم النفط .... يا لتعاسة مهيرة والخليل وعبداللطيف وكل الأسماء الخالدة في تاريخ السودان القديم والحديث . منفيون في كل بقاع العالم ومن خيرة أبناء الوطن الملازم عزاؤهم الوحيد حفظ ماء الوجه وما تبقى من كرامة شخصية فهم على الأقل يعيشون حياة خالية من الخوف مثلي تماماّ ولكنها حياة خير منها الموت ... يا لعجبي !!!!! اليوم المثقف أو الشاعر أو الكاتب أو المفكر أو المخرج المسرحي أو المخرج السينمائي أو الصحفي السوداني يأتي اسمه في ذيل القائمة حتى لو كان عضواّ في حزب المؤتمر الوطني الحاكم ، وكما يقولون وكما تردنا الأنباء فهو إما خائف أو نصف جائع أو منافق ...... وكما قال وكما كتب أكثر من مناضل يحب السودان ويعشقه أنة السودان لم يعد فيه من مجال لكي يؤدي المثقف دوره الوظيفي في المجتمع كحامل رؤية أو أداة تجديد وتطوير وتعليم وتثقيف وتغيير ونقد !!!!! المثقف في السودان - وأرجو أن تنتبهوا لهذا - قد يسمح له بأن يشتغل في الطين ولكن - كما قال أحد المفكرين - ليس لكي يصنع تمثالاّ بل لكي يوسخ أصابعه وملابسه ... وقد يسمح له بإخراج فيلم سينمائي فيخرج شيئاّ من قفاه !!!!! أنظر إلى سياسيينا فأتذكر نهرو ومانديلا ونكروما وديجول ولا أتذكر من قادة وطني إلا من مات مقتولاّ أو شهيدا قبل أن يكمل رسالته ، أنظر إلى وطني بعد 1956 فلا أرى سوى عبود وهو عسكري ونميري وهو عسكري والبشير وهو عسكري ، وإن حاولت أن أرى أبعد من ذلك رجع البصر خاسئاّ !!!! كمهاجر منفي في أقاصي الدنيا كما يقول صديقي محمد محمد خير لا أحلم إلا بالعودة إلى وطن أحس فيه بالأمان وأنني آمن ، لا أحد في هذا المنفى " المقرف " يرغب في العيش فيه ، لا نرغب يا أهل بلدي أن نقف طوال شتاء أريزونا وتورنتو في محطات البنزين أو نشق ليالي المدن لتوصيل أطباق البيتزا !!!! نريد أن نعود إلى الوطن لتوصيل أطباق الكسرة واللقيمات لكل النساء السودانيات . الفنان النوبي السوداني العربي الإفريقي العالمي محمد وردي تورنتو-بدرالدين حسن علي أتذكر الآن وبعد مضي نحو عشرين عاماّ تلك اللوحة الرائعة للفنان التشكيلي الراحل ميرغني الأمين .. ذلك المبدع المتمرد المنتمي إلى شعبه ووطنه لدرجة الذوبان في طينه ورماله ، فعلى خلفية زرقاء صافية رسم حروف " وردي " على هيئة طيور بيضاء ترفرف بأجنحتها في عنان السماء حمائم للسلام ، وبلوحته تلك أخرج لنا قصيدة تشكيلية كقصيدة الطيور المهاجرة للشاعر السوداني الكبير صلاح أحمد إبراهيم بل كانت أصدق تعبيراّ عن هذا الفنان النوبي السوداني العربي الإفريقي العالمي محمد عثمان وردي وشدوه الجميل الذي صاحبنا كل هذه السنين الطويلة وساعدنا أن نضحك ونغني ونرقص ونتمسرح في هذه الدنيا حتى لو كنا في منافي كندا ، وما زلت حتى الآن أسمع وردي كما كنت أسمعه وأنا في الصبا وأصر على ترديد كل أغانيه التي أحفظها عن ظهر قلب ، وما من نشيد إلا وأنشدناه أطفالاّ ونساءّ ورجالاّ بحماسة تلهب مشاعرنا بحب الوطن وسلامته وأمنه وإستقراره وأزدهاره .. هو فنان مدهش ورائع إلتف حوله كل السودانيين وأصبح رمزاّ وطنياّ ومطرباّ متفرداّ ومتميزاّ .. مسيرته غنية بالعطاء الخالص المتدفق ألقاّ وإبداعاّ .. قدم خلالها عشرات العشرات من أحلى الأغنيات ، والتي إختارها بعناية فائقة لكبار الشعراء .. تفاعل مع كل القصائد بروح فنان يعرف ماذا يريد ويعرف كيف يعبر عما يريد .. ولعل هذا هو السحر الخاص الذي يمتلكه الفنا ن وردي ، عندما تقع القصيدة بين يديه يدخل في أحشائها .. يتغلغل في شرايينها وفي كل حروف كلماتها ومن داخلها يفجر تلك الشحنات التي تجعلها قصيدة لوردي وبس كما لو كان هو مؤلفها .. ولم لا .. فليس بالضرورة أن يكون الشاعر هو المؤلف فقد يكون ذلك المتلقي الراهب المتعبد في صومعة الشعر ولهاّ وتيها حتى يفنى فيه .. ووردي شاعر ورسام ومطرب ومغرد ومنشد وموسيقار ومايسترو يعزف على أوتار القصيدة على نحو لا يجود الزمان بمثله إلا مرات قليلة . كم من السنين مرت يا وردي على تلك اللوحة التشكيلية التي رسمها لك الفنان الراحل المقيم ميرغني الأمين ؟ وهل ما تزال معك ؟ في تلك اللوحة أرى شموخك وكبرياءك ، أرى وردي الذي لم ينكسر في زمن الإنكسار ، ولم ينهزم في زمن الإنهزام ، لم يهادن أو يصالح ، قل لي يا أيها النوبي ما سر هذه القوة والجسارة ؟ أنا أعرف أن لكل شيء ضمير ولكن أعرف أيضاّ أن ضمير الغناء السوداني هو محمد وردي وأعرف أيضاّ لماذا أنت شاغل الدنيا والناس . تعثرت مشاريعك الفنية الكبرى ؟ لا تحزن يا صديقي كل مشاريعك أمانة في أعناقنا إلى يوم الدين .. مهموم بمشروعك الجديد لإنقاذ أطفال السودان ؟ تأكد يا صديقي سندعم مشروعك بكل ما نملك من أجل أطفال أهلي الطيبين ومن أجلك . نتابع أخبارك عن بعد بعد نجاح عملية زرع الكلى في قطر ونقول لك ألف حمدالله على السلامة وبانتظار أن نسمع منك يا رائع يا جميل . |
السبت، 9 فبراير 2008
رسالة ثلجية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق