السبت، 2 فبراير 2008

مسرح الأمس .........مسرح اليوم

بمناسبة مرور أربعين عاما على المسرح الحديث في السودان
ذكريات لا تنسى " 1"
في مثل هذه الأيام من عام 1967 كانت الإستعدادات تجري على قدم وساق من أجل إنطلاق حركة جديدة على خشبة المسرح القومي بأمدرمان ، ترأسها بإقتدار شد يد الفنان الراحل الفكي عبدالرحمن ، وساعده في ذلك نخبة من الفنانين السودانيين في شتى حقول الفن والثقافة ، تطوعوا جميعا للعمل من أجل مسرح سوداني أصيل .
كانت البداية صعبة جدا ومليئة بالمخاطر والمغامرة ، ولكن ما من أحد كان يحفل بذلك ، لقد عقدوا العزم على تحقيق الهدف ، بدءا من تغيير صالة
المسرح وخشبته و" البدرون " وكل بما يحيط بالمبنى داخليا وخارجيا ، مرورا بالطبع بالمكاتب وغرف المكياج والإضاءة والديكور وغيرها من مستلزمات الفن المسرحي .
ولكن كان أكثر ما يهم الفكي عبدالرحمن هو محتوى ذلك المسرح ، بمعنى آخر ما هي نوع المسرحيات التي ستقدم فيه ، خاصة وهو يواجه فقرا شديدا في المسرحيات السودانية التي يمكن أن تسد الفراغ ، ويواجه فقرا أيضا في القوى البشرية والمادية ومواجهة ثالثة تتمثل في الجهة المشرفة على هذا العمل الكبير والممثلة في وزارة الإعلام .
لن نتوقف هنا طويلا عند تلك المصاعب والتحديات فقد كان الفكي عبدالرحمن الرجل المناسب في المكان المناسب ، وكان أولئك النفر في المكان المناسب تماما ، أمثال مكي سنادة ، عبدالله الشريف ، الحارث ، محمد عثمان ، عمر الفاروق ، عثمان قمر الأنبياء ، عثمان أحمد حمد " أبو دليبة " ، محمود سراج " أبو قبورة " ، الفاضل سعيد ، عثمان أحمد حميدة " تورالجر " ، عبدالوهاب الجعفري ، عثمان النصيري ، خالد المبارك ، علي عبد القيوم ، صالح الأمين ، مهدي حسن مهدي ، حيدر ، فاروق ، علي أمين المخزن ، محمد شريف ، محمد عثمان المصري ، وكوكبة كبيرة من عمال الديكور والإضاءة والستارة والملابس والميكياج إنضم إليهم لاحقا الفنانة ميرفت وأخواتها من الفنانات والموظفات السودانيات ، وعم إسماعيل وسابو ، صلاح تركاب ، تحية زروق ، فتحية محمد احمد ، علوية ، إسماعيل طه ، عوض صديق ، أنور محمد عثمان ، محمد رضا ، صلاح قولة ، عمر براق ، الطاهر شبيكة ، عمر الخضر ، عوض محمد عوض ، الريح عبدالقادر ، الطيب المهدي ، علي مهدي و ألف معذرة للذين سقطت أسماهم في هذه القائمة والذين سيأتي ذكرهم في حلقات قادمة .
كان مشهدا مالوفا ولعدة سنين أن ترى عشرات المشاهدين من وإلى المسرح القومي من أبو روف وبيت المال والموردة والمحطة الوسطى بأمدرمان بأرجلهم مما جعل وزارة المواصلات تخصص باصا لنقلهم من المحطة الوسطى بأم درمان وإلى المسرح القومي حتى أصبح الباص من أشهرها عندما أصبح من ركابه كبار الممثلين والممثلات .
الممثل الكبير عوض صديق مثلا كان يمتلك عربة " فولكسواجن " وكان من الصعب جدا أن يصحبه أي أحد مهما كان في عربته وهو متجها إلى منزله ، وكان من الصعب جدا أن تأخذ سيجارة من صندوق علبته " البنسون " والتي على إستعداد أن يرميها على الأرض للإيحاء بأنها فارغة ، بل كان يصطاد السمك أو يقطف الليمون من النيل ليتجنب شراؤه من السوق .
كان صلاح تركاب يمتلك عربة ومثله أيضا مهدي حسن مهدي وعثمان قمر الأنبياء ، وهذا الأخير قدت عربته بدون رخصة وصدمت بها مدخل مكاتب الفنون المسرحية والإستعراضية التي أنشأها الفكي عبدالرحمن مؤخرا وجعل من قمر الأنبياء مديرا لها ، وإضطررت أن أدفع مبلغ عشرين جنيها ثمنا لإصلاح ما لحق بها من تلف .
ولكن لم يستطع الفكي أن يجعل المسرح خاصا بتقديم المسرحيات فقد طاردته لعنة حكومة نوفمبر ، وهي ذات الحكومة التي بنت المسرح عام 1959 لإشغال الناس بحفلات السمر السودانية والعربية والأجنبية ، بل هي كانت الأكثر أهمية من الدراما وكانت تشكل عصب برنامج المسرح القومي لسنين طويلة وحتى عندما نشأت مباني أخرى مثل قاعة الصداقة الصينية السودانية ، فانتقلت العدوى إليها وإلى مسارح الأقاليم هي أيضا .
والحقيقة أن الفكي ومجموعة كبيرة من الفنانين المسرحيين بذلوا جهدا كبيرا لجعل المسرح القومي مكانا للإستمتاع بلغة الدراما خاصة وأن عددا كبيرا من خريجي جامعة الخرطوم ومدارس التربية والتعليم ولاحقا معهد الموسيقى والمسرح قد إنضموا إلى العاملين بالمسرح القومي مما كان له الأثر الكبير لتثبيت برنامج المسرحيات الدرامية ، وتوفير ميزانية خاصة تصرف عليها .
كان الفكي عبدالرحمن متفهما تماما لتعقيدات الأمر ، فوزارة الإعلام لم تكن تحفل بالدراما ، وبذلك كانت خشبة المسرح القومي بأمدرمان تحفل بالسهرات الغنائية وفرق الفنون الشعبية والأكروبات إلى جانب المسرحيات التي تنوعت إتجاهاتها ما بين مسرحيات سودانية لحما ودما ومسرحيات عربية وإفريقية وحتى من الأدب المسرحي العالمي مما سيأتي ذكره لاحقا .
وسرعان ما إشتدت المنافسة بين مجموعة الدراما ومجموعة الغناء والسمر وهذه الأخيرة أضرت كثيرا بمسيرة المسرح القومي الذي شهدت أروقته صراعا عاتيا بدخول الأجهزة الأمنية الإستخباراتية سواء في فترة الديموقراطية الثانية أو فترة نظام مايو وما بعد ذلك .
ولا يخفى على أحد أن المسرح القومي كان أحد الأضلاع الثلاثة لما كان يطلق عليه " الحوش " أي المسرح ، الإذاعة والتلفزيون إلى جانب نشاط خفيف لمركز الإنتاج السينمائي . وعلى الرغم من التعاون الواضح بين هذه الأجهزة إلا أن العبء الأكبر وقع على المسرح القومي في صدامه الشديد والعنيف ضد تدخلات الأجهزة الأمنية مما أيضا سنفصله في حلقة قادمة .

ليست هناك تعليقات: