السبت، 9 فبراير 2008

رسالة ثلجية


رسالة ثلجية وهموم سودانية لعموم المثقفاتية


بدأ الثلج يتساقط في كندا مبكراّ على غير عادته ، وقبل تساقطه هذا تساقطت كل أوراق الأشجار التي كانت مفرهدة مزهوة بلونها الأخضر تعطي للحياة معنىولتحقيق الأماني أمل ، الآن توهط اللون الأبيض ونزل وسكن فوق كل البيوت والشوارع والميادين والحدائق ، دوائر ومربعات ومستطيلات من الطباشير الأبيض على مدى البصر ، من النافذة لا شيء يوحي بالحياة سوى من حين إلى آخر تتحرك بعض الأجسام في هزال وتعب شديد ، لا شيء يوحي بأن هناك ثمة هدف ، فهذا بتعبير مهذب وقت الكسل ، ولكنه في حالة مشابهة وقت الموات والإختفاء ، يسمونه في لغة الأدب وربما السياسة البيات الشتوي .
عاندت نفسي وجلست تحت زمهرير الثلج أعود بالذاكرة إلى سنين خلت ، تعمدت أن تكون العودة بلا ترتيب زمني ، وإنما قفزات فوق العقود والحقب مشحونا بذاكرة متعبة من الجلد والقهر والمنفى ، مر شريط سينمائي طويل يعرض صوراّ باهتة لوجوه دخلت التاريخ ولم تخرج ، ووجوه خرجت من التاريخ قبل أن تدخل ، ووجوه منعت من الدخول وأخرى منعت من الخروج وبعضها تراوح بين الدخول والخروج ونشبت معركة بين كل الوجوه واجتاحتني عاصفة من الهوس ورغبة مكتومة في الإنتحار ورغبة اخرى في المقاومة، الموقف كان صعباّ .
بدا لي أن الزمن في السودان يحفل بالموت وتقل فيه الحياة ، وأننا مجموعة كبيرة من المنافقين والكذابين أحياء ولكننا موتى ونعيش على صدقات أحياء ولكنهم موتى ، وليس أمامنا سوى أن نرفع شعارات هي في النهاية جلد الذات ، نحن بصراحة نجيد صناعة الموت ، ولنا سجل طويل غير مسبوق في موت المبدعين المبكر .... من التجاني يوسف البشير ومعاوية محمد نور والمجذوب ومحمد عمر بشير وصلاح أحمد إبراهيم وخالد الكد وليلى المغربي وخوجلي عثمان ومحمد رضا حسين وأحمد عاطف وأحمد قباني وجيلي عبدالرحمن وأحمد الجابري ورمضان زايد وعبد العظيم حركة وأحمد المصطفى وعبد العزيز العميري ومصطفى سيداحمد وحورية حاكم وعلي عبدالقيوم وعمر الدوش و..و.. قائمة طويلة من الموت المبكر ، ليس بسبب المرض وإنما بسبب القهر والحرقة على البلد !!!!!!!
ويا لحظ السودان يموت الشعراء والأدباء والفنانون وكبار المثقفين مبكراّ ويعمر السياسيون يرأسون أحزابنا ويحكمون بلادنا عقود وعقود وما يزالوا يحلمون ليس بحسن الخاتمة وإنما بصفقة مال تزيدهم وجاهة .
وها هم مفكرونا وكتابنا وشعراؤنا وطليعة مثقفينا يغسلون الصحون في لندن ، ويكنسون الشوارع في باريس ، ويجمعون القمامة في واشنطون ، وتطحنهم مصانع الأسمنت و البلاستيك في كندا ، ومن حالفه الحظ يعيش مطعونا في الشرف والكبرياء بدنانير ودراهم النفط .... يا لتعاسة مهيرة والخليل وعبداللطيف وكل الأسماء الخالدة في تاريخ السودان القديم والحديث .
منفيون في كل بقاع العالم ومن خيرة أبناء الوطن الملازم عزاؤهم الوحيد حفظ ماء الوجه وما تبقى من كرامة شخصية فهم على الأقل يعيشون حياة خالية من الخوف مثلي تماماّ ولكنها حياة خير منها الموت ... يا لعجبي !!!!!
اليوم المثقف أو الشاعر أو الكاتب أو المفكر أو المخرج المسرحي أو المخرج السينمائي أو الصحفي السوداني يأتي اسمه في ذيل القائمة حتى لو كان عضواّ في حزب المؤتمر الوطني الحاكم ، وكما يقولون وكما تردنا الأنباء فهو إما خائف أو نصف جائع أو منافق ...... وكما قال وكما كتب أكثر من مناضل يحب السودان ويعشقه أنة السودان لم يعد فيه من مجال لكي يؤدي المثقف دوره الوظيفي في المجتمع كحامل رؤية أو أداة تجديد وتطوير وتعليم وتثقيف وتغيير ونقد !!!!!

المثقف في السودان - وأرجو أن تنتبهوا لهذا - قد يسمح له بأن يشتغل في الطين ولكن - كما قال أحد المفكرين - ليس لكي يصنع تمثالاّ بل لكي يوسخ أصابعه وملابسه ... وقد يسمح له بإخراج فيلم سينمائي فيخرج شيئاّ من قفاه !!!!!
أنظر إلى سياسيينا فأتذكر نهرو ومانديلا ونكروما وديجول ولا أتذكر من قادة وطني إلا من مات مقتولاّ أو شهيدا قبل أن يكمل رسالته ، أنظر إلى وطني بعد 1956 فلا أرى سوى عبود وهو عسكري ونميري وهو عسكري والبشير وهو عسكري ، وإن حاولت أن أرى أبعد من ذلك رجع البصر خاسئاّ !!!!

كمهاجر منفي في أقاصي الدنيا كما يقول صديقي محمد محمد خير لا أحلم إلا بالعودة إلى وطن أحس فيه بالأمان وأنني آمن ، لا أحد في هذا المنفى " المقرف " يرغب في العيش فيه ، لا نرغب يا أهل بلدي أن نقف طوال شتاء أريزونا وتورنتو في محطات البنزين أو نشق ليالي المدن لتوصيل أطباق البيتزا !!!! نريد أن نعود إلى الوطن لتوصيل أطباق الكسرة واللقيمات لكل النساء السودانيات .

الفنان النوبي السوداني العربي الإفريقي العالمي محمد وردي
تورنتو-بدرالدين حسن علي
أتذكر الآن وبعد مضي نحو عشرين عاماّ تلك اللوحة الرائعة للفنان التشكيلي الراحل ميرغني الأمين .. ذلك المبدع المتمرد المنتمي إلى شعبه ووطنه لدرجة الذوبان في طينه ورماله ، فعلى خلفية زرقاء صافية رسم حروف " وردي " على هيئة طيور بيضاء ترفرف بأجنحتها في عنان السماء حمائم للسلام ، وبلوحته تلك أخرج لنا قصيدة تشكيلية كقصيدة الطيور المهاجرة للشاعر السوداني الكبير صلاح أحمد إبراهيم بل كانت أصدق تعبيراّ عن هذا الفنان النوبي السوداني العربي الإفريقي العالمي محمد عثمان وردي وشدوه الجميل الذي صاحبنا كل هذه السنين الطويلة وساعدنا أن نضحك ونغني ونرقص ونتمسرح في هذه الدنيا حتى لو كنا في منافي كندا ، وما زلت حتى الآن أسمع وردي كما كنت أسمعه وأنا في الصبا وأصر على ترديد كل أغانيه التي أحفظها عن ظهر قلب ، وما من نشيد إلا وأنشدناه أطفالاّ ونساءّ ورجالاّ بحماسة تلهب مشاعرنا بحب الوطن وسلامته وأمنه وإستقراره وأزدهاره .. هو فنان مدهش ورائع إلتف حوله كل السودانيين وأصبح رمزاّ وطنياّ ومطرباّ متفرداّ ومتميزاّ .. مسيرته غنية بالعطاء الخالص المتدفق ألقاّ وإبداعاّ .. قدم خلالها عشرات العشرات من أحلى الأغنيات ، والتي إختارها بعناية فائقة لكبار الشعراء .. تفاعل مع كل القصائد بروح فنان يعرف ماذا يريد ويعرف كيف يعبر عما يريد .. ولعل هذا هو السحر الخاص الذي يمتلكه الفنا ن وردي ، عندما تقع القصيدة بين يديه يدخل في أحشائها .. يتغلغل في شرايينها وفي كل حروف كلماتها ومن داخلها يفجر تلك الشحنات التي تجعلها قصيدة لوردي وبس كما لو كان هو مؤلفها .. ولم لا .. فليس بالضرورة أن يكون الشاعر هو المؤلف فقد يكون ذلك المتلقي الراهب المتعبد في صومعة الشعر ولهاّ وتيها حتى يفنى فيه .. ووردي شاعر ورسام ومطرب ومغرد ومنشد وموسيقار ومايسترو يعزف على أوتار القصيدة على نحو لا يجود الزمان بمثله إلا مرات قليلة .
كم من السنين مرت يا وردي على تلك اللوحة التشكيلية التي رسمها لك الفنان الراحل المقيم ميرغني الأمين ؟ وهل ما تزال معك ؟ في تلك اللوحة أرى شموخك وكبرياءك ، أرى وردي الذي لم ينكسر في زمن الإنكسار ، ولم ينهزم في زمن الإنهزام ، لم يهادن أو يصالح ، قل لي يا أيها النوبي ما سر هذه القوة والجسارة ؟ أنا أعرف أن لكل شيء ضمير ولكن أعرف أيضاّ أن ضمير الغناء السوداني هو محمد وردي وأعرف أيضاّ لماذا أنت شاغل الدنيا والناس .
تعثرت مشاريعك الفنية الكبرى ؟ لا تحزن يا صديقي كل مشاريعك أمانة في أعناقنا إلى يوم الدين .. مهموم بمشروعك الجديد لإنقاذ أطفال السودان ؟ تأكد يا صديقي سندعم مشروعك بكل ما نملك من أجل أطفال أهلي الطيبين ومن أجلك .
نتابع أخبارك عن بعد بعد نجاح عملية زرع الكلى في قطر ونقول لك ألف حمدالله على السلامة وبانتظار أن نسمع منك يا رائع يا جميل .

الفكي عبدالرحمن ... رائد المسرح السوداني الحديث

رحيل أبو المسرح السوداني الحديث
الفكي عبد الرحمن فناناّ ومعلماّ وإنساناّ
غيب الموت قبل عدة أسابيع فناناّ سودانيا أصيلاّ يندر أن يجود الزمان بأمثاله ذلكم هو الفنان والمعلم والمربي الإنسان الفكي عبد الرحمن والذي إستحق أن يقال عنه بكل فخر وإفتخار أبو المسرح السوداني الحديث ، كان الفكي فناناّ موهوباّ رضع وشرب المسرح من جميع مصادره وتسلح في وقت مبكر جدا بأصول المسرح عندما كان ترفاّ لدى البعض ، وكان دائما يذكرني بالمقولة الشهيرة " أرني المسرح في أي بلد أقل لك نوع النظام الذي يحكمه " ، بل كان على إيمان عميق برسالة المسرح السياسية والإجتماعية والتربوية والفنية ومن هنا فقد كانت كل سنوات عمره تضحيات متواصلة من أجل مسرح سوداني أصيل واختار معركته الأولى في المسرح القومي بأمدرمان ذلك البناء الكبير الذي بنته حكومة الفريق إبراهيم عبود والمطل على نهر النيل الخالد وواجهة لمركزين إعلاميين كبيرين هما الإذاعة والتلفزيون وفيما بعد الإنتاج السينمائي والفنون الشعبية وفرقة الأكروبات السودانية ، وحملت جميع هذه المراكز بصماته الواضحة إما تأسيساّ أو تغييراّ في النهج والأسلوب وتطويرا في الشكل والمحتوى فكانت دروسه العظيمة تلك دافعاّ للمئات من الفنانين السودانيين من الشباب والشيوخ للتوجه نحو المسرح أو تلك المراكز لتقديم إبداعاتهم وفنونهم .
أطلق الفكي عبدالرحمن كما قلنا الشرارة الأولى في المسرح القومي بأم درمان عام 1967 ، كان المسرح القومي يومها وكراّ للبوم والخفافيش ومرتعاّ خصباّ للنفايات والأوساخ ، فشمر عن ساعده وحمل أول " كوريك " لإعادة بناء المسرح وتجهيزه كي يكون صالحاّ للعروض المسرحية رغم مساحته الكبيرة ووقف إلى جواره شباب ورجال آمنوا بالرسالة وقدموا الكثير من التضحيات يضيق المجال هنا لذكر أسمائهم وبعد فترة وجيزة أعلن بدأ المواسم المسرحية في المسرح القومي والتي أصبحت تقليداّ سائداّ إلى يومنا هذا رغم ما إ عترضت مسيرة المسرح من عقبات وتداخلات بسبب الأنظمة السياسية التي حكمت السودان بعد الإستقلال .
يومها كان الفكي عائدا إلى السودان من إنكلترا بعد أن أنهى دراسته المسرحية فيها متابطا شكسبير وأرسطو وراسين ومولير وكوردن كريج واستانسلافسكي وهنريك إبسن وتشيخوف وبرتولد بريخت وفيشر وأونيل وآرثر ميللر والبير كامو وتينيسي وليامز وجان جينيه ولوركا وكاسونا وبسكادور وبيرانديللو وبيتر فايس وجنوا أشيبي وولي شوينكا وتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور ومحمود دياب واسطسحب معه في السودان إبراهيم العبادي وخالد أبو الروس والطاهر شبيكة والفاضل سعيد وحمدنالله عبدالقادر وغيرهم .
وجاء بفنانين من الجامعات والمعاهد العليا وحتى من الثانويات ليشاركوا في تلك القافلة الفنية الرائعة – مكي سنادة ، أبو قبورة ، اسماعيل خورشيد ، أبودليبة ، عثمان قمر الأنبياء ، جعفر النصيري ، خالد المبارك ، علي عبد القيوم ، عمر براق ، محمد رضا ، أبو العباس محمد طاهر ، صلاح تركاب ، يوسف عايدابي ، هاشم صديق ، فتح الرحمن عبد العزيز ، محجوب عباس ، يوسف خليل ، صلاح قولة ، السر
قدور ، إبراهيم حجازي ، محمد عثمان المصري ، عوض محمد عوض ، إسماعيل طه ، عوض صديق ، أبراهيم شداد ، علي مهدي ، تحية زروق ، فتحية محمداحمد ، حسن عبدالمجيد ، محمد شريف ، هاشم محجوب ، يحيى الحاج ، الريح عبدالقادر عبد المطلب الفحل ، عمر الحميدي ، عمر الخضر وذلك الجيل من الشباب واعتذر لمن فاتني ذكره فجميعهم في رموش العين لمساهماتهم العظيمة في تطوير المسرح السوداني مع قائده الفذ الفكي عبد الرحمن ، ولا يمكن لأي واحد من هؤلاء أن ينكر الفضل الذي قدمه له الفكي عبد الرحمن ، ويكفي أن مكتبته العامرة كانت مفتوحة لهم جميعاّ بل أن نصفها موجود لديهم حتى اليوم ولم يسأل مطلقاّ بإعادة كتاب إليه ، كان فقط يقول للمستعير " أقرأ ودع غيرك يقرأ "
تعدت إنجازات الفكي عبدالرحمن المسرح القومي لينشيء مسارح الأقاليم لتصبح رافدا هاما في مسيرة المسرح السوداني وأفكاره النيرة التي أوجدت معهد الموسيقى والمسرح وفرقة الفنون الشعبية وفرقة الأكروبات السودانية والفرق المسرحية الكثيرة التي نشأت تباعاّ وقدمت إنتاجاّ مسرحياّ يتسم بالجدية والتنوع والإبداع .
الفكي عبدالرحمن من بعد هذا وذاك صاحب برنامج الأطفال بالإذاعة السودانية لسنين طويلة حفر اسمه في ذاكرة أطفال السودان رجال اليوم ومستقبل السودان ، كنت من أقرب المقربين للفكي عبد الرحمن فهو " الخال " وهو الأستاذ وكان الصديق أيضاّ فقد كان على درجة عالية من الفهم والثقافة والتجارب ويعرف كيف يعامل جميع الناس ولذا أحبه كل الناس وفي يوم رحيله عم الحزن ليس السودان فحسب بل كل المدن والعواصم العربية نعته بحزن عميق لمآثره الكثيرة ، وأصدقكم القول أني مازلت حزينا لفراقه قبل أن ألتقيه بعد غربة طالت وطوت معها صفحات من أروع الصفحات التي عشناها مع أمثال الفكي عبد الرحمن والذي يستحق أن يخلد اسمه في ذاكرة الشعب السوداني مثله مثل أولائك العباقرة الذين بنوا سودان الأمس وسودان اليوم وسودان الغد، ولي عودة .




الفكي عبدالرحمن ... رائد المسرح السوداني الحديث

رحيل أبو المسرح السوداني الحديث
الفكي عبد الرحمن فناناّ ومعلماّ وإنساناّ
تورنتو- بدرالدين حسن علي
غيب الموت قبل عدة أسابيع فناناّ سودانيا أصيلاّ يندر أن يجود الزمان بأمثاله ذلكم هو الفنان والمعلم والمربي الإنسان الفكي عبد الرحمن والذي إستحق أن يقال عنه بكل فخر وإفتخار أبو المسرح السوداني الحديث ، كان الفكي فناناّ موهوباّ رضع وشرب المسرح من جميع مصادره وتسلح في وقت مبكر جدا بأصول المسرح عندما كان ترفاّ لدى البعض ، وكان دائما يذكرني بالمقولة الشهيرة " أرني المسرح في أي بلد أقل لك نوع النظام الذي يحكمه " ، بل كان على إيمان عميق برسالة المسرح السياسية والإجتماعية والتربوية والفنية ومن هنا فقد كانت كل سنوات عمره تضحيات متواصلة من أجل مسرح سوداني أصيل واختار معركته الأولى في المسرح القومي بأمدرمان ذلك البناء الكبير الذي بنته حكومة الفريق إبراهيم عبود والمطل على نهر النيل الخالد وواجهة لمركزين إعلاميين كبيرين هما الإذاعة والتلفزيون وفيما بعد الإنتاج السينمائي والفنون الشعبية وفرقة الأكروبات السودانية ، وحملت جميع هذه المراكز بصماته الواضحة إما تأسيساّ أو تغييراّ في النهج والأسلوب وتطويرا في الشكل والمحتوى فكانت دروسه العظيمة تلك دافعاّ للمئات من الفنانين السودانيين من الشباب والشيوخ للتوجه نحو المسرح أو تلك المراكز لتقديم إبداعاتهم وفنونهم .
أطلق الفكي عبدالرحمن كما قلنا الشرارة الأولى في المسرح القومي بأم درمان عام 1967 ، كان المسرح القومي يومها وكراّ للبوم والخفافيش ومرتعاّ خصباّ للنفايات والأوساخ ، فشمر عن ساعده وحمل أول " كوريك " لإعادة بناء المسرح وتجهيزه كي يكون صالحاّ للعروض المسرحية رغم مساحته الكبيرة ووقف إلى جواره شباب ورجال آمنوا بالرسالة وقدموا الكثير من التضحيات يضيق المجال هنا لذكر أسمائهم وبعد فترة وجيزة أعلن بدأ المواسم المسرحية في المسرح القومي والتي أصبحت تقليداّ سائداّ إلى يومنا هذا رغم ما إ عترضت مسيرة المسرح من عقبات وتداخلات بسبب الأنظمة السياسية التي حكمت السودان بعد الإستقلال .
يومها كان الفكي عائدا إلى السودان من إنكلترا بعد أن أنهى دراسته المسرحية فيها متابطا شكسبير وأرسطو وراسين ومولير وكوردن كريج واستانسلافسكي وهنريك إبسن وتشيخوف وبرتولد بريخت وفيشر وأونيل وآرثر ميللر والبير كامو وتينيسي وليامز وجان جينيه ولوركا وكاسونا وبسكادور وبيرانديللو وبيتر فايس وجنوا أشيبي وولي شوينكا وتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور ومحمود دياب واسطسحب معه في السودان إبراهيم العبادي وخالد أبو الروس والطاهر شبيكة والفاضل سعيد وحمدنالله عبدالقادر وغيرهم .
وجاء بفنانين من الجامعات والمعاهد العليا وحتى من الثانويات ليشاركوا في تلك القافلة الفنية الرائعة – مكي سنادة ، أبو قبورة ، اسماعيل خورشيد ، أبودليبة ، عثمان قمر الأنبياء ، جعفر النصيري ، خالد المبارك ، علي عبد القيوم ، عمر براق ، محمد رضا ، أبو العباس محمد طاهر ، صلاح تركاب ، يوسف عايدابي ، هاشم صديق ، فتح الرحمن عبد العزيز ، محجوب عباس ، يوسف خليل ، صلاح قولة ، السر
قدور ، إبراهيم حجازي ، محمد عثمان المصري ، عوض محمد عوض ، إسماعيل طه ، عوض صديق ، أبراهيم شداد ، علي مهدي ، تحية زروق ، فتحية محمداحمد ، حسن عبدالمجيد ، محمد شريف ، هاشم محجوب ، يحيى الحاج ، الريح عبدالقادر عبد المطلب الفحل ، عمر الحميدي ، عمر الخضر وذلك الجيل من الشباب واعتذر لمن فاتني ذكره فجميعهم في رموش العين لمساهماتهم العظيمة في تطوير المسرح السوداني مع قائده الفذ الفكي عبد الرحمن ، ولا يمكن لأي واحد من هؤلاء أن ينكر الفضل الذي قدمه له الفكي عبد الرحمن ، ويكفي أن مكتبته العامرة كانت مفتوحة لهم جميعاّ بل أن نصفها موجود لديهم حتى اليوم ولم يسأل مطلقاّ بإعادة كتاب إليه ، كان فقط يقول للمستعير " أقرأ ودع غيرك يقرأ "
تعدت إنجازات الفكي عبدالرحمن المسرح القومي لينشيء مسارح الأقاليم لتصبح رافدا هاما في مسيرة المسرح السوداني وأفكاره النيرة التي أوجدت معهد الموسيقى والمسرح وفرقة الفنون الشعبية وفرقة الأكروبات السودانية والفرق المسرحية الكثيرة التي نشأت تباعاّ وقدمت إنتاجاّ مسرحياّ يتسم بالجدية والتنوع والإبداع .
الفكي عبدالرحمن من بعد هذا وذاك صاحب برنامج الأطفال بالإذاعة السودانية لسنين طويلة حفر اسمه في ذاكرة أطفال السودان رجال اليوم ومستقبل السودان ، كنت من أقرب المقربين للفكي عبد الرحمن فهو " الخال " وهو الأستاذ وكان الصديق أيضاّ فقد كان على درجة عالية من الفهم والثقافة والتجارب ويعرف كيف يعامل جميع الناس ولذا أحبه كل الناس وفي يوم رحيله عم الحزن ليس السودان فحسب بل كل المدن والعواصم العربية نعته بحزن عميق لمآثره الكثيرة ، وأصدقكم القول أني مازلت حزينا لفراقه قبل أن ألتقيه بعد غربة طالت وطوت معها صفحات من أروع الصفحات التي عشناها مع أمثال الفكي عبد الرحمن والذي يستحق أن يخلد اسمه في ذاكرة الشعب السوداني مثله مثل أولائك العباقرة الذين بنوا سودان الأمس وسودان اليوم وسودان الغد، ولي عودة .




مصطفى سيداحمد

مصطفى سيداحمد ..... الرحيل النبيل والغناء الجميل
1من 2
مصطفى يغسل أحزان الناس وينسى أحزانه

من هو مصطفى سيداحمد ؟
لماذا نكتب عنه كل عام ؟
لماذا نظل نذكره في كل مناسبة ؟
لماذا كلما مر السابع عشر من يناير يتقطع حشانا وتدمع عيونا ؟
لماذا هذا الحب والعشق لذاك الإنسان وذاك الغنا ؟
من هو مصطفى سيداحمد .. من هو هذا الشاب الوسيم ذو النظرات الرقيقة والقلب الكبير والوجه الذي ترتسم عليه خريطة الوطن وأحزان الناس وأفراحهم ؟
من هو هذا الفنان الإنسان الذي كلما نظرت إلى وجهه ترى أطفالاّ ونساءّا وشباباّ وشيوخاّ وترى الشهداء والأحياء ..... ترى كل الوطن ؟
من هو هذا الفنان المبدع الذي شغل الدنيا والناس بأغانيه ؟
هو مصطفى سيداحمد المقبول مختار عمر الأمين سلفاب .
المصطفى أحد أسماء النبي الكريم " ص " .. ووالده سيد الأرض .. أحد المزارعين الغلابة الذين وهبوا ذاتهم وكل حياتهم لكي تثمر الأرض زرعاّ وحصاداّ للمطحونين وجده المقبول عند الله تعالى لصفاء سيرته وحسن أخلاقه ... وأبو لجده عمر المختار الأمين على وطنه وأهله وناسه ... سلفابي إبن سلفابي .
نعم هو من قرية ود سلفاب ومن مواليد 1953 ّّّ!!!!!!
رحل عن دنيانا في السابع عشر من يناير عام 1996 .... وذلك يعني أن حياته إمتدت لنحو 43 عاماّ فقط ! ملأها حتى آخر لحظة وهو يعاند المرض اللعين .. ملأها فرحاّ وغناءّ جميلاّ ... وحق لنا أن نقول عنه الرحيل النبيل .. إنه رحيل العباقرة المبدعين الذين غادروا ويغادرون مبكراّ أمثال معاوية نور والتجاني يوسف بشير ومحمد عبد الحي وخالد الكد وعبدالعزيز العميري ومحمد رضا حسين وحورية حاكم وعلي عبد القيوم وعمر الدوش وصلاح أحمد إبراهيم وعمر الدوش وغيرهم .
يوسف الموصلي الموسيقار والملحن والمطرب والباحث كان له مشروع طموح في الكتابة عن رموز الغناء السوداني الحديث والمعاصر وأصدر عدداّ من الكتب بمجهود شخصي من بينها كتابه عن صديقه ورفيق عمره مصطفى سيداحمد حتى أصبح الكتاب مرجعاّ مهما لمن يريد أن يتناول مشوار مصطفى سيداحمد على المستوي الإجتماعي والدراسي والفني .
الآن يمر العام السابع على رحيل هذا الفنان الرائع وما أروع أن نتذكره قطعاّ لوعد قلناه له دائماّ أنك حفرت إسمك في ذاكرة الغناء السوداني بعمق وإبداع وجهد مثابر وأننا لا نسأل الله إلا أن يمد في عمرك لنسمع المزيد المزيد من الغنا الجميل .
يقول يوسف الموصلي في توثيقه لمسيرة مصطفى سيداحمد أن جده الأمين سلفاب قدم من شمال السودان ... ذلك يعني منطقة الشايقية التي قدمت الكثير في مجال الشعر والغناء ، ولكن جده إستقر جنوب غرب الحصاحيصا على بعد 7 كيلومترات منها ، وغرب أربجي بحوالي 13 كيلومتر ... وكان قدوم الأمين ود سلفاب للمنطقة حوالي عام 1710 .
وهكذا إستقر الأمين ود سلفاب في مكان قرية ود سلفاب الحالية والتي كانت أصلاّ قرية للدينكا كما يقول الموصلي في بحثه المشار إليه سابقاّ ، وأن هؤلاء الدينكا أبادهم وباء الجدري وما زالت هياكلهم العظمية ترقد تحت تراب القرية إلا إذا أخرجتها المطامير أو أساسات المباني العميقة المعاصرة فتخرج مع حفنات من السكسك والخرز ، والمغزى العميق في هذه المعلومة التاريخية تشير إلى تلاقح العنصرين العربي والإفريقي في قرية مثل ود سلفاب وهذا ما سندركه لاحقاّ كيف أن مصطفى سيداحمد حسم موضوع هويته السودانية منذ فترة مبكرة فجعلها هوية لكل السودان بتعدده الثقافي والفكري والديني والعرقي والسياسي والفني ، ليس شعراّ وغناءّ فقط وإنما في حواراته الكثيرة وجلسات الإستماع المتواصلة .
بالطبع عمل سكان ود سلفاب بالزراعة المطرية لبعدهم عن النيل ولوفرة الأمطار وكان ذلك قبل مشروع الجزيرة العملاق ، وبعد قيام المشروع توفر الري الصناعي والموروث من المعرفة بالزراعة القادمة معهم من شمال السودان ، لذلك كان والد مصطفى فلاحاّ بالفطرة كما يقول المصريون ، واحتقنت دماؤه بعاطفة الأرض والزراعة فكان مصطفى محصلة لتلك المصلحات النوبية القديمة ، وهذا أيضاّ ما سنعرفه لاحقاّ عند تناول قصائده وأغانيه .
على المستوى الإجتماعي مصطفى له سبع شقيقات وأخ شقيق واحد ومن سخرية الأقدار أن شقيقه هذا وكان فناناّ مرهفاّ قد رحل مبكراّ أي قبل رحيل مصطفى ولعل الاريء يدهش إذا عرف أن شقيق مصطفى واسمه المقبول قد توفى وكان عمره آنذاك 27 عاماّ فقط ، وكان المقبول يكتب الشعر وصوته جميل .
كتب المقبول قصيدة السمحة يقول فيها :

السمحة قالوا مرحلة
بعدك الفريق أصبح خلا
............
جاني الخبر جاني البلا
والسمحة قالوا مرحلة
هذه الأبيات تؤكد بلا ما يدع مجالاّ للشك أن هذا شاعر عظيم إختطفه الموت في وقت مبكر ، وتكفي الإشارة إلى وصفه للفريق الذي أصبح " خلا " وكيف أن الخبر أصبح " بلا " .
ولكن القصيدة لها معاني أخرى كثيرة وهذا ما جعلها محببة لمصطفى وللكثيرين من عشاق فنه إذ يقول المقبول :
قول يا لسان في الراحلة
صوغ المعاني وجملا
نافر وما عارف العليّ
حالي العليّ حال الخلا
ها هو يلعب مرة أخرى على نغمة " الخلا " التي لا تغدو أن تكون سوى الصحراء في قصائد كبار الشعراء
يا عينيّ جافيتي المنام
وخدودي معاك بللا
وين بعدك ألقى عطوف يلم
أفكاري بعد البهدلة
كلمات بسيطة ولكنها غنية بالكلام السوداني المتداول من الجفا والبلل والعطف واللم والبهدلة .
روح يا نسيم روح قابلا
تلقاها نايمة وغافلة
داعب لخصلات شعرها
وألثم ضفائرها المسدلة
وأرفع كتفيها الهادلة
وكلل خدودها وقبلا
وقو ليها من بعدك خلاص
شفنا الفريق أصبح خلا
لاحظ هذا الإصرار والتنوع في إستخدام " الخلا " ولكن بمنظور شاعري مرهف للغاية حتى أصبح " الخلا " يعطي أكثر من معنى .
هذه القصيدة هي أول أغنيات الفنان مصطفى سيداحمد التي إبتدأ بها شهرته .
وهكذا فإن ملكة الشعر مغروسة في الشاعرين الرائعين ، ولمصطفى عشرات القصائد الجميلة من بينها قصيدته :
غدار دموعك ما بتفيد
في زول حواسوا إتهجرت
جرب معاك كل السبل
وإيديهو ليك ما قصرت
حطمت في قلبوا الأمل
كل الأماني الخدرت
كلماتو ليك ضاعت عبس
لا قدمت لا أخرت
كان مصطفى سيداحمد ومنذ طفولته على قدر من التمرد على كل ما يقيده .. كان منذ طفولته ينطلق إلى الأفق فكشف عن طفل له مستقبل واعد وطموح كبير .. فدخل المدرسة مبكراّ .. وأيضاّ مبكراّ جداّ كان يعشق صوت الراديو فيجلس أمامه لساعات طويلة يستمع للموسيقى ، فافتتن به وشكل جزءاّ من حياته .
دخل الإبتدائي بالحصاحيصا وحصل على ترتيب متقدم ثم إنتقل للدراسة الأكاديمية بمدرسة بورتسودان الثانوية عام 1973 . وهناك أصبح فنان بورتسودان الأول ، وبعد التخرج عمل بالتدريس في مدرسة ودسلفاب الثانوية العامة للبنين ، كانت الجزيرة دائمة الفرح وفي تنوع مدهش بالفرق الشعبية المحلية فنمت مواهب مصطفى في أجواء أسرة تحب الغناء والطرب فانتقل إلى الخرطوم بمعهد تدريب معلمي الثانوي العام ولكنه أضطر لترك مهنة التدريس ليعمل بمصنع النسيج السوداني مصمماّ نظراّ لموهبته في الرسم ، ثم بدأ إحتكاكه بالوسط الفني وكانت أغنيات : المسافة ، الشجن الأليم ، عشم باكر ، عباد الشمس وكان نفسي أقولك .
ثم إلتحق بمعهد الموسيقى والمسرح قسم صوت وكانت أولى تجاربه مع مستر كيم الكوري في أغنية رسائل للكاشف وعازة لخليل فرح وكانت له تجاربه في المسرح ، ولكن مصطفى لم يتمكن من تكملة الأربع سنوات بالمعهد ، كما وجد مشقة في التعامل مع الإذاعة والتلفزيون فلجأ إلى جلسات الإستماع التي جمعت عدداّ هائلاّ من محبي مصطفى سيداحمد .
كان مصطفى سيداحمد مؤمناّ بأن الغناء فن راق وأن الفنان ضمير عصره ، وعليه أن يشحذ في الناس الأحاسيس والمشاعر الصادقة بشفافية الفنان العاشق للناس والوطن ، وأن يدفعهم للإستمتاع بالفن الجميل ، يذكرني في هذا بتلك الأيام الغابرة للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في مصر حيث طبقت شهرتهما الآفاق بتلك الجلسات الشعبية ولم تتمكن أجهزة الأمن من مصادرة أغانيهما ، والغناء عند مصطفى كان موقف وكان قضية ، كان يؤمن إيماناّ قاطعاّ بأن على الفنان أن ينشر الوعي بين الناس وأن يرتقي بالذوق العام .
ولكن المرض اللعين حاصره فغادر بسببه إلى روسيا ومصر والدوحة بحثاّ عن علاج لكلية واحدة وهناك فاضت روحه النبيلة ليظل الراحل المقيم في قلوب كل أهل السودان الذين وقفوا معه في كل مراحل مرضه ، تلك المواقف التي خففت عنه كثيراّ ولم أعرف شخصاّ قاوم المرض مثل مصطفى ، وكان من بين الألم والمعاناة يخرج تلك الدرر الحية الباقية التي تغنى بها بإرادة وتصميم وأدخل البهجة في قلوب كل أهل السودان .
وحقيقة يقولون أن وراء كل رجل عظيم إمرأة .. فقد حباه الله ببثينة في وقت كان في أشد الحاجة إلى إنسانة مثلها ... وكما في التاريخ هناك جميل بثينة عاد التاريخ ليكتب قصة مصطفى بثينة ، إنها بثينة محمد نصر .. ذلك الحب والزواج الذي أثمر أغنيات خالدات وأثمر سامر وسيداحمد .
قال عنها " لم أكن أعرفها .. جاءني صوتها عبر التلفون تطلب مني شريطاّ فيه أغاني محددة .. وعرفت من خلال هذا اللقاء إهتمامها بما أغني في إطار أسري .. واستمرت هذه الصلة لثلاثة أعوام وتكونت القناعات والشعور بأنك تحتاج لهذا الشخص ليقاسمك حياتك .. ما تعلمنا عن الحب كثيراّ ولكنا أحسسناه .. ومن حقنا أن نرى في الكلام إرهاصاّ وإختزالاّ لما نحس .. وما خاب ظني .. فقد كانت بثينة مدعاة للتماسك .. تغسل أحزاني وآلامي وتخرجني نظيفاّ إلى الناس .. لها حس مرهف بالألحان الجديدة بل والنصوص .. تجتهد في أن تجعل الظروف القاسية مساحة يمكن العمل فيها .. وتتحسس لحظات الإشراق والإنفعال لتسخر حتى حركتها داخل المنزل لتوفر جواّ أعمل فيه .. كيف لا وهي الستر والغطاء وأم سامر وسيداحمد "
عزاؤنا الخالص لك يا بثينة وللرائعين سامر وسيداحمد وعشمنا أن نرى فيهما مصطفى سيداحمد .




مصطفى سيداحمد

مصطفى سيداحمد ... الرحيل النبيل والغناء الجميل

2من2
شيد لنا صوامع للفرح وفتح لنا مسارح للمرح
من هو مصطفى سيداحمد ؟
لماذا نكتب عنه كل عام ؟
لماذا نظل نذكره في كل مناسبة ؟
لماذا كلما مر السابع عشر من يناير يتقطع حشانا وتدمع عيونا ؟
لماذا هذا الحب والعشق لذاك الإنسان وذاك الغنا؟
من هو مصطفى سيداحمد .. من هو هذا الشاب الوسيم ذو النظرات الرقيقة والقلب الكبير والوجه الذي ترتسم عليه خريطة الوطن وأحزان الناس وأفراحهم ؟
من هو هذا الفنان الذي كلما نظرت إلى وجهه ترى أطفالاّ ونساءّ وشباباّ وشيوخاّ .. وترى الشهداء والأحياء .. ترى كل الوطن ؟
من هو هذا الفنان المبدع الذي شغل الدنيا والناس بأغانيه

في حلقة سابقة تحدثنا عن بداياته الأولى إلى أن وقف مغنياّ صداحاّ وسكن في قلوب الجماهير التي أحبته وعشقته وحتى رحيله المبكر تاركا لنا بثينة وسامر وسيداحمد وثروة من أروع الأغنيات .
نعم رحل مصطفى تاركاّ 450 أغنية .. والبعض يقول أكثر من ذلك ، ولعله الفنان الوحيد الذي غنى لعدد كبير من الشعراء المعروفين والمغمورين والمجددين .. فقد غنى لهاشم صديق ، عمر الدوش ، أزهري محمد علي ، أبو ذر الغفاري ، نجاة عثمان ، صلاح حاج سعيد ، يحيى فضل الله ، حسن بيومي ، محمد الحسن سالم حميد ، قريب الله محمد عبدالله ، قاسم أبو زيد ، خطاب حسن أحمد ، عاطف خيري ، محمد المهدي عبدالوهاب ، الفرجوني ، الصادق الرضي ، محمد طه القدال ، بشرى الفاضل ، عوض مالك ، جمال حسن سعيد ، تاج السر عثمان ، محمد إبراهيم شمو ، عبدالعال السيد ، مدني يوسف النخلي ، حسن ساتي ، عبدالوهاب هلاوي ، عبدالقادر الكتيابي ، الصادق الياس ، حافظ عباس ومعذرة لمن خانتني الذاكرة ولم أذكرهم ، كما غنى لشعراء عرب مثل نزار قباني ومظفر النواب ومحمود درويش .
في كل إختيارات مصطفى سيداحمد لأغانيه نجد سحراّ خاصاّ في كل أغنية وهذا يعود إلى موهبته في الشعر والرسم ، فهو شاعر مرهف وإحساسه عميق بالكلمة وقدرة هائلة على إستكشاف روح القصيدة وتقديمها بأسلوب السهل الممتنع ، فهو يجعل المستمع سجين لحنه ، فأنت لا تستطيع أن تقدم أغنيته إلا باللحن الذي إختاره كما أن صوته الذي يوصف بأنه من فئة باريتون وهو نوع من الصوت البشري أكثر غلظة من التينور وأكثر حدة من صوت الباص ، وهنا تكمن صعوبة تقليد صوته .
مصطفى سيداحمد رغم رحيله المبكر إلا أنه ظاهرة فنية فريدة ومتفردة .. واسم عملاق يضاف إلى عمالقة الطرب في السودان الذين عرفهم كتاب التاريخ الموسيقي والغنائي إبداعاّ وخيالاّ وجمالاّ وإحساساّ وشفافية وخلوداّ .
أزهري محمد علي كتب له قصيدة " وضاحة " يقول فيها :
الصباح الباهي لونك
وضاحة يا فجر المشارق
غابة الأبنوس عيونك
يا بنية من خبز الفنادك
هنا الشاعر يصف وجه حبيبته بلون الصباح الباهي .. وما أجمل الصباح .. ويقول أنها وضاحة .. ويخلط الصفات في وصفها مثل الفجر وغابة الأبنوس وطعم الخبز .
وفي حالة من الوجد الشديد يقول :
شيدتي في جواي صوامع من الفرح
وفتحت في دنياي مسارح للمرح
هذا التعبير الجميل عن صوامع الفرح ومسارح المرح ، كل هذا العالم الجميل شيدته وفتحته الحبيبة في قلب هذا العاشق الولهان ، أليست الحبيبة هي الوطن ؟؟؟
ليس ذلك فقط فهو يقول :
وبقيتي لي سكة وعيون
فهو الآن يرى بعيونها وتهديه إلى الطريق
لا قدرت أطولك شان أجيك
لا قدرت من غيرك أكون
هذه هي حالة العشق والإندماج الكامل عندما يفنى الحبيب في محبوبته .
ويأتي إلى تعبير بسيط يأتي على لساننا مرات ومرات كل يوم عندما نقول مثلاّ " والله أنا عندي كلام كتير ما قادر أقولو " فيقول الشاعر
وأنا بيك ماليني الكلام
هذه هي بلاغة الشعر وعذوبته
ثم يجنح الشاعر ويترك خياله يسبح في عالم من الكلمات المختارة بعناية فائقة فتتحول الكلمات إلى ما يشبه المعجزات
حركت بيك عصب السكون
هنا الشاعر يتخيل أن للسكون عصب ، وقد حرك هذا السكون بحبيبته إلى أن يقول :
جلبت ليك الغيم رحط
طرزت ليك النيل زفاف
حرقت ليك الشوق بخور
وفرشت ليك الريد لحاف
ما من كلمة في هذه الأبيات إلا وأعطت صورة من الصعوبة بمكان أن تتاح لأي شاعر ، فتخيلوا معي كيف أن الشاعر جعل من الغيم رحط وطرز النيل ثوب زفاف لحبيبته ... أما البخور فهو الشوق الذي إحترق في مبخر العشق .. ثم فرش لها لحافاّ لتنام عليه وهو لحاف الريد ...
جلبت ليك الغيم رحط
طرزت ليك النيل زفاف
حرقت ليك الشوق بخور
وفرشت ليك الريد لحاف
لا السكة بيك بتنتهي
ولا معاك مليت طواف
يا ريتني لو بقدر أكونك
وضاحة يا فجر المشارق
الصباح الباهي لونك
يا بنية من خبز الفنادك
غابة الأبنوس عيونك
وعندما يغني مصطفى هذه القصيدة تجد نفسك في عالم من الخيال والسحر والجمال والنور الأخاذ .
لقد تغنى مصطفى بعشرات القصائد في وصف الحبيبة والتي يخلطها دائما بالوطن ، لأنه مسكون بحب الوطن إلى درجة الجنون ، وقد لاحظت عندما صدر كتاب " فجر المشارق " كتب في الإهداء " إلى كل ذرة من تراب الوطن الغالي مبللة بعرق الطيبين المحبين .. تنبت من بين الوجدان الصادق أزهاراّ تفوح طيباّ مسكوباّ من عبير رواد الكلمة .. أصدقائي الذين طوعوا الحرف للبلد العزيز "
نعم هو فنان مسكون بحب الوطن ، وها هو الشاعر هاشم صديق يقول :

حاجة فيك
تقطع نفس خيل القصائد
تشده أجراس المعابد
هنا الشاعر يتخيل أن للقصائد خيول " نفسها " إنقطع " بحاجة لم يفصح عنها الشاعر صراحة تتميز بهل حبيبته .. والتي هي الوطن
ويقول
تشده أجراس المعابد
يا الله .. نحن نعرف أن أجراس المعابد والكنائس تشده الناس . فما هي تلك
تلك " الحاجة " في الحبيبة التي تشده أجراس المعابد .
لذا يئن الشاعر ويتوجع
توهتني .. تعبتني .. جننتني
جننت حرف الكلام
وبرضو أدتني السلام
وما أروع مصطفى عندا يردد شرف المدائن والسفاين والمناجم والموانئء .
حاجة في شرف المدائن
في غرف كل السفائن
جوه في عمق المناجم والعيون
حاجة زي ما تكون محلق في العواصف
وفجأة تهبط في السكون
حاجة زي نقر الأصابع
لما ترتاح للموسيقى
حاجة زي أخبار تناغم من جريدة
حاجة زي وتر الموانيء
لما يصدح لسفينة
ثم " يغلبه " الكلام .. لا يستطيع التعبير عن المشاعر الجياشة في داخله .. فيهدأ ويقول :
حاجة فيك لا بتبتدي
لا بتنتهي
خلتني أرجع للقلم
أتحدى بالحرف الألم
وأضحك مع الزمن العريض
وأنسف متاريس الطريق
وأعرف متين أبقى المطر
وأعرف متين أصبح حريق
أنت يا هاشم لم تتخل يوما عن القلم .. دائما كان قلمك " مسنون" كما السيف والقرطاس والقلم ، ودائما كنت عبوة ناسفة للظلم والقهر وكنت مطراّ وحريقاّ كما كنت بلسماّ .
ومصطفى دائماّ كان قلمه وسيفه وعبواته الناسفة ذلك العود الذي يحمله بين يديه يتحدى به الألم والمرض والعذاب والمعاناة يضحك ويغني مع الزمن ومع كل الناس
وهنا يطل أبو ذر الغفاري :
في عيونك ضجة الشوق والهواجس
ريحة الموج البنحلم فوقو بي جية النوارس
ياما نحلم نحكي ليكي عن المسافة
ونشتهيك
عن سفن بالشوق بترسم في بحيراتك ضفافها
عن ملامح غنوة هلت في عيونك هتافها
عن حقيقة نهاتي ليها في أساطير الخرافة
هذا هو الشعر الخرافي وذلك هو الغناء الخرافي
والله نحن يا مصطفى مع الطيور الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر نمشي في كل المدائن نبني عشنا بالغناوي ننشد درر والربيع يسكن جوارنا والسنابل تملأ دارنا والرياحين والمطر ، فنم هانئاّ فما زلنا نردد معاك والله باكر يا حليوه نمشي في كل الدروب الواسعة ديك والرواكيب الصغيرة تبقى أكبر من مدن .




حكاية الرجل الذي صار كلبا




في كندا التي جئتها مؤخراّ دائما كان يشغلني إهتمام الكنديين بالكلب لدرجة أن الكلب في كندا " شخصية " هامة جداّ ، ولا يهم إن تقبلنا هذا أم رفضناه ، ولكن صراحة " الكلب " في كندا يستحق أن يكون شعار الدولة ويتوسط علمها .
الكلب في كندا له دار ويأكل أطيب الطعام وألذ أنواع الشراب ويلبس أحسن وأجمل الأزياء ، نعم والله رأيت كلباّ كندياّ يرتدي لباساّ لم يلبسه محمود محمد طه ولا أحمد فؤاد نجم ولا الجواهري أو عبدالرحمن منيف ، لم يلبسه سيد قطب ولا رياض الترك
رأيت كلاباّ في كندا ترقص ونبيحها غناء وضحك وتمشي الهوينا تتبختر وتهز وسطها كما تفعل فيفي عبده ، رأيت كلاباّ في كندا ترى في وجوهها العز والجاه وويلك إن حاولت إيذاءها أو حتى مجرد إهانتها إذ سرعان ما تنطلق رصاصة في رأسك ، رأيت كلاباّ تمشي مع ستات وتنام على صدورهن تشتهي أن تكون محلها ، رأيت كلاباّ ترقد في المقاعد الخلفية لسيارات فخمة لم أشاهدها في حياتي إلا في كندا وتمنيت أن لا أحوز مثلها بل فقط أن يسمح لي أن أقترب منها وأحيي الكلب الجالس فيها ، رأيت كلباّ لم أشك لحظة أنه رئيس دولة عربية .
علماّ بأننا في بلادنا نعامل الكلب على أساس أنه حيوان مكروه ونخاف منه ، وفي أغلب البلدان العربية الكلب يعيش مشرداّ لا تعرف له صاحباّ والشاعر العربي قال :
العبد عبد ولو طالت عمامته
والكلب كلب ولو ترك النبيح
أذكر أنني كثيراّ ما كنت أشاهد جماعة قتل الكلاب وهم يرصدون الكلب ببندقية خاصة لقتله وبدلاّ من أن نحزن لذلك كان يمتلكنا شعور بالفرح والسعادة بأننا تخلصنا من أحد الكلاب ، ومن شتائمنا المشهورة عندما نقول" يا كلب يا إبن الكلب " .
وأذكر أنني قرأت كتاباّ عنوانه " قانون العقوبات المدني " وكان فيه نص قانوني يقول " من قتل حيواناّ أليفاّ كلباّ أو قطة من دون وجه حق يحكم بالحبس الشديد مدة زمنية لا تقل عن ستة أشهر ويدفع غرامة معينة "
وتساءلت لماذا إذن يقتلون الكلاب علنا وعلى عينك يا تاجر ولم أجد إجابة سوى
" إنه كلب "
نسيت هذا النص تماماّ وإنشغلت أكثر بقتل الإنسان ، وكم ذهب من حياتنا بشر زهقت أرواحهم من دون مبرر ، وأعدم وأغتيل وفقد العشرات من الألوف وربما الملايين من الناس من دون وجه حق ، وكم ضاع من الأطفال وإنحرف من النساء وجرد عن العمل من العاملين ونفي من المغتربين المنفيين ، وكم خلق من المعوقين والمشوهين وكم أهين في كرامة العجزة والطاعنين ، كم وكم في حياتنا عدد قتلانا من البشر على إمتداد الألفين عام الماضية .
إذا عملنا جردة حسابية لعدد قتلانا من البشر لا يساوي أي شيء عن عدد القتلى من الكلاب وجميع الحيوانات في العالم ، ورغم كل ذلك وفي جميع البلدان العربية نجد حكامنا يتحدثون عن الإنسان العربي وأنهم يعملون لخدمة الإنسان العربي .
والإنسان العربي مجرد حشرة في عرف الكثير من الحكام العرب
,الآن في كندا أقارن بين حال الإنسان العربي وحال الكلب الكندي .
الإنسان العربي في السجون والمعتقلات والتعذيب والتشريد لا لشيء سوى إختلاف في الرأي ، الإنسان العربي الفقير المحروم التائه في الطرقات وأماكن القمامة بحثاّ عن لقمة عيش بينما الملوك والأمراء والرؤساء واللوردات الجدد يرمون أطنان من الطعام في أكياس وبراميل الزبالة .
الإنسان العربي فناناّ كان أو فيلسوفاّ ، مفكراّ أو أديباّ ، موسيقياّ أو مغنياّ ، وكم عدد السياط التي وقعت على ظهره ، وأشكال التعذيب التي مارسها رجال الأمن وما يزال على إنسان عربي بسيط لا يملك في هذه الدنيا غير شرفه وكرامته ورأيه الحر الذي يجاهر به رغم الكبت والقمع والتعذيب .
بإمكاني أن أروي لكم عشرات القصص والحكاوي المؤلمة التي سمعتها من أصدقاء وزملاء مهنة أهينت كرامتهم وتم تحقيرهم من قوم تزدريهم وتحتقرهم ومع ذلك صار لهم جبروت وهيبة من حاكم ظالم مستبد أو نظام ديكتاتوري فاشي .
شاهدت الإنسان العربي في جميع الدول العربية ، لم أكن أهتم بالأثرياء والأغنياء والسادة وأصحاب النفوذ ، كنت دائماّ أبحث عن الفقراء واليتامى ، عن المناضلين الجسورين ، عن المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان ، وبحثي هذا جعلني في دائرة الشك والإتهام في كثير من الدول العربية فلم أسلم من ممارسات رجال الأمن الفظة .
ولا أجد وجهاّ للمقارنة بين الإنسان العربي والكلب الكندي .
ولذا كم تمنيت أن أكون كلباّ كندياّ !!!!!!!!!

سياحة في عقل صعلوك مستهتر

سينما الأمس .......سينما اليوم
أراد أن يخرج فيلما سينمائيا فأخرج شيئا من قفاه

لم أشاهد الفيلم المصري " عيال حبيبة " للمخرج أحمد عبدالله ، كما لم أشاهد فيلمه الآخر " عليا الطرب بالثلاثة " ، وأظن أنني محظوظ جدا بحرماني من المشاهدة ، فأنا بطبعي لا أحب مشاهدة الأفلام الساقطة للمخرجين الساقطين ، كما أكره كثيرا الممثلين السيئين الذين جاءوا إلى السينما من الأبواب الخلفية وفي غفلة من الزمان ، أولئك الذين يمكن أن يبيعوا كل شرفهم من أجل حفنة دولارات ، وسينما المقاولات والتهريج والإضحاك المقزز قد إنتهى عهدها وحلت محلها سينما محترمة ، سينما تقول شيئا مفيدا ، سينما تدعوك على إعمال عقلك ومعرفة ما يجري حولك ، بل تدعوك للإنتفاض والثورة من أجل تغيير كل ما هو سالب في حياتنا ، والسينما المصرية زاخرة جدا بمثل هذه الأفلام التي أنارت طريق المشاهد المصري والعربي بل ومشاهدي السينما في العالم أجمع .
أميرة الطحاوي كاتبة مصرية ، كان أول مقال أطالعه لها في " سودانايل " عندما إستعرضت كتاب أخي وصديقي فتحي الضو المعنون " السودان- سقوط الأقنعة " ، وأذكر جيدا في إحدى مكالماتي الهاتفية مع فتحي قلت له يبدو أن ألطحاوي ذات أفق ثقافي واسع وعلينا أن نهتم بها ونسعى للتعرف عليها وتمليكها بعض الحقائق عن السودان ، وإذا بي أفاجأ الأسبوع الماضي بمفالها الثاني لي في " سودانايل " بعنوان " العنصريون الجدد في السينما المصرية " تطرقت فيه إلى الفيلمين المشار إليهما أعلاه ووصفت كلاهما أنهما من نوع الأفلام الفضيحة والإضحاك المفتعل ، وهذا ليس أمرا غريبا فالسينما المصرية فيها القمم الخالدة وفيها أيضا الأفلام الهابطة ، إلا أن أخطر ما جاء في مقالها عن الفيلمين النزعة العنصرية المتجذرة والمترسخة في عقلية هذا المخرج النكرة .
السخرية من أصحاب البشرة السوداء
في الفيلم الأول إتخذ المخرج من لون أحد الممثلين - " سليمان عبدالعظيم " وهو يؤدي دور شاب أسود اللون – مثارا للسخرية وإهانته عمدا لأصحاب البشرة السوداء ، وأوردت الطحاوي في مقالها ما كتبه الناقد السينمائي المصري طارق الشناوي وإستنكاره الشديد للفيلم ، وما جاء فيه من مشاهد أشعرته بقدر لا ينكر من الإشمئزاز من تلك السخرية ، وقال تحديدا أنها سخرية سوقية وصبيانية لا تليق فكريا ولا إنسانيا لأنها تصل إلى حد إزدراء صاحب البشرة السوداء ، ووصفها بأنها سابقة خطيرة لا يدري كيف تجاوزت عنها الرقابة .
وأوردت الطحاوي أيضا جزءا مما كتبه الناقد المصري أحمد يوسف والذي بدوره وصف الفيلم بالفضيحة ، وأنها نفس تلك الضحكات العنصرية المريضة من أصحاب البشرة السوداء ، التي أصبحت علامة مسجلة في الأفلام المصرية الأخيرة ، مشيرا إلى أفيهات مثل " الناس دي إتحرقت قبل كده !!!! ووصف الأمر بأنه يجعلك تبوس أيدي صناع الفيلم لأنك لا تريد أن تضحك وليذهب هذا النوع من الكوميديا إلى الجحيم .
هذا يحدث في مصر " الشقيقة ّّّ!!!!
هذا عن عام 2005 ، وفي العام 2006 عرض لذات المخرج النكرة فيلمه الثاني المشار إليه سابقا ، وفيه يقبل ممثل أسود البشرة على مجموعة من الحالسين فيصيح الممثلون " أهوه الفحم وصل !!!!!!!!!!!!" ، فيضج الجميع بالضحك ، ولم يستح أو يخجل صناع الفيلم من أن يطلقوا على الممثل إسم " نصر السوداني " مقرونا بصفة الريحه الوسخة ، وهو يرتدي الزي القومي السوداني من جلابية وعمة وملفحة !!!! وأن الجملة المقززة " نصر السوداني أبو الريحة الوسخة تتدفق بلا حياء على لسان أكثر من نجم عندما يظهر هذا السوداني لتمثل إحدى مرتكزات الفيلم الفكاهية .
ولكن أحمد عبدالله ليس وحده ، فقد إنضمت له المخرجة إيناس الدغيدي التي سيعرض لها قريبا فيلمها " ما تيجي نرقص " ويحتوي على عبارات مشابهة للفيلمين السابقين ، أستخدمت للدعاية للعمل ، حيث تستظرف الممثلة هالة صدقي وتقول أنها كانت مخطوبة لكوفي عنان – وتنطفها قوفي !!- وفسخت الخطوبة لأن لونه غامق !!!!!!!!!
طبعا لا شيء يمكن أن يشعرك بالحنق والقرف والتبول على مثل هكذا أفلام تعرض في جميع دور العرض السينمائية المصرية وربما العربية أيضا ، ويشاهدها مصريون بعضهم بسطاء يتشكل في وعيهم صورة سخيفة للإنسان الأسود ، وبأتي هذا في زمن تصاعدت فيه شعارات حقوق الإنسان التي تمنع منعا باتا وتحاكم بالسجن أية إتجاهات لقذف الآخر في لغته أو دينه أو ثقافته أو لونه أو عرقه ، ولا يستطيع أيا من كان أن يجد العذر لمثل هذه الأعمال الهابطة المسيئة ، فهناك جهاز في جميع بلدان العالم يسمى جهاز الرقابة على المصنفات الفنية ، ومهمة هذا الجهاز بالدرجة الأولى حماية حقوق البشر من الفنانين المتصعلكين المتعنطسين الذين يهددون المباديء الأساسية للسلم وإحترام الآخر .
ولا يستطيع أيا من كان أن يجد العذر لجهاز الرقابة المصرية في تمريرها لمثل هكذا أفلام وبالتالي هي مشتركة بالكامل في مثل هذه الجرائم البشعة المدمرة ، وهي بذلك إنما تشجع الآخرين على حذو نفس الطريق ، ونعيش بالتالي في غابة يحكمها الحمقى وألأغبياء والموتورين والمنفلتين ويصبح الآخرون هم الجحيم ّ!!!
هناك آلاف القضايا التي تهم الإنسان المصري والتي يمكن أن تتناولها السينما المصرية مثلما فعلت تلك الأفلام الخالدة والتي ما تزال تعيش في وجدان الناس ويخلدها التاريخ عبر العصور ، وهي ذات الأفلام التي عرف العالم من خلالها الإنسان المصري وثبتت مكانته بين شعوب العالم ، وعلى الأقل ينبغي أن يشعر أمثال هؤلاء الحمقى بالخزي والعار لأنهم يهدمون تلك القيم الإنسانية الجميلة التي تركها لنا الأسبقون ، وعلى جهاز الرقابة المصرية أن يشعر هوالآخر أيضا بالخزي والعار لأنه تحول إلى جهاز مفسدة وليس رقابة ، وأذكر جيدا عندما كنت أعمل في راديو و تلفزيون العرب بالقاهرة كان أكثر ما يهم مالكها الشيخ صالح عبدالله كامل هو جهاز الرقابة على الأفلام وكان يسائلني شخصيا عن أي فيلم يخدش أو يلمس بأطراف الأصابع القيم الأخلاقية والدينية والإجتماعية وغيرها ، فما بالك بجهاز رقابة بحجم الجهاز المصري ، وما يؤلم حقا أن الفيلم يبقى بنسخته الأصلية الملطخة لسمعة البلد المنتج .
السودانيون لهم حكمة متداولة تقول " العارف عزو مستريح " ونحن يا ولدي يا حمودي عارفين عزنا ومستريحين ولكن الطامة الكبرى في أن أحمد عبدالله أراد أن يخرج فيلما سينمائيا فأخرج شيئا من قفاه !!!!!!!!!!!!!!
كلمة أخيرة
يبدو أن سفارتنا في مصر " نايمة في العسل " مع أنها تحتل مبنى راق وفي وسط البلد يزدحم بالعاملين وتصرف عليه ميزانية مهولة ومع ذلك لا تحرك ساكنا إذا ما تطايرت جثث اللاجئين في ميدان مصطفى محمود أو تخصصت السينما المصرية في الشخصية السودانية ، وحقيقة أنا مندهش ومستغرب لهذه المواقف السلبية واتساءل بإلحاح شديد عن دور السفارات في الخارج فهل من مجيب ؟ أم نكشف أكثر عن كل ما هو غريب وعجيب ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

سامي سالم

رسالة إلى الله
بمناسبة رحيل الفنان الكاتب الناقد الفذ سامي سالم
لم أصدق الخبر الذي تلقيته من صديقي ، ظننته للوهلة الأولى أنه من نوع " الهظار بالعيار الثقيل " ، والسبب يرجع إلى أن صديقي يعرف علاقتي بسامي سالم ، ويعرف أيضا علاقتي بزوجته أحلام اسماعيل حسن ، ويعرف أكثر من ذلك علاقتي بولديه محمد وعمر ، عندما رن الهاتف قال لي وهو يكاد يبكي " بدرالدين ، سامي سالم مات ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
بالطبع شتمته ولعنت سنسفيل ...... ولكنه سرعان ما رد قائلا " يا بدرالدين أنا ما بهظر ، سامي سامي وشرع في البكاء!!!!!!!!!!!!!!
صديقي هذا لم أره في كل حياتي وهو يبكي ، فهو لا يعرف غير الضحك والنكت و" الهظار " ، وعندما بكى أدركت أن في الأمر شيئا ، فسعيت لتهدئته لكي أفهم " بالظبط " ماذا يريد أن يقول ؟؟؟؟؟
كنت يومها ولأول مرة في حياتي وفي علاقتي بسامي سالم أن لا أكلمه لأكثر من عام كامل بسبب إنشغالات تافهة ، وأيضا لم أكلم أحلام لأكثر من عام ، فشقني الخبر إلى نصفين ، فقد تيقنت أن صديقي لا يكذب ، ولا شعوريا أقفلت خط الهاتف وأجهشت في البكاء .
لا أدري كم من الوقت مضى وأنا على تلك الحالة ولكن عندما إنتبهت ورفعت " سماعة التلفون " لكي أجري إتصالا هاتفيا وجدت أن عندي خمس رسائل ، راجعتها فكانت جميعها رسائل تعزية ، فازددت بكاء وشعرت كأنما سامي ينتقم مني ويحتقرني .
ولكني إستغفرت الله وسعيت لإستعادة رباطة جأشي والتصرف بنوع من الحكمة والصبر . إتصلت بأحلام كي أعزيها وأسأل عن تفاصيل الخبر الحزين وإذا بي أجدها أحلام الحالمة الصافية ذات القلب الكبير ، ففي كل مرة أسألها كانت تبادر هي لتسألني عن مهيرة وعني وو ،وبعد المحادثة خلدت للنوم وإستغرقت في سلسلة أحلام عن الموت !!!!!!!!!!!!!
أذكر أولها كان فيلما سينمائيا مصريا شاهدته في التسعينات من القرن الماضي على الرغم من أنه من إنتاج الستينات ، بطولة عمنا الكبير حسين رياض ومريم فخرالدين وأحمد خميس و الخالة أمينة رزق وكان بعنوان " رسالة إلى الله " وقصته تدور حول الطفلة عائشة التي تصعد إلى مئذنة الجامع لتطلب من الله أن يجعل عروستها تتكلم ، فتقع عروستها ، تحاول أن تستردها لكنها تسقط هي الأخرى وعلى إثرها تفقد الذاكرة ، فيعاني الأطباء في علاجها ، وينهار والدها حسين الذي يعمل كمساريا في السكة حديد ، تمر السنوات ويتأخر زواجها بسبب مرضها ، يصبح جارها ميدو صحفيا يتزوج منها وتنجب طفلة ويتم إستبدالها بالعروسة التي كانت دائما تحملها وبهذا تشفى من مرضها .
لا أدري لماذا ذلك الفيلم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟وأحلام أخرى حاصرتني حتى الصباح ، لكن من الواضح أنني كنت فريسة كوابيس " من العيار الثقيل " وعندما صحوت مبكرا مخلوعا قررت أن أكتب رسالة إلى الله عن هذا الطفل الذي رحل قبل أن يكمل رسالته أو بمعنى أصح عن سامي سالم الفنان والكاتب الصحفي والناقد الفذ الذي ترك ما لم يتركه كبار الكتاب والنقاد العرب ولا أبالغ فيما أقول ، فقط أطلب منكم الإنتظار حين يأتي وقت نشر ما كتبه من إبداع فوق العادة .
سامي سالم هو صديق أسرتنا في الثورة الحارة 13 ، وكان يزورنا كثيرا وتوطدت علاقته بشقيقي الأصغر صلاح الدين الذي رحل هو أيضا في ريعان شبابه ، ولكني زاملت سامي منذ الستينات وحتى رحيله ، مشوار طويل من الأحداث والقصص والحكاوي والقضايا الشائكة المعقدة وأجمل الأيام وأروعها التي لن تعود .
كان سامي يصول ويجول في كل حدائق الأدب والفن الرفيع بكلمات رشيقة رقيقة هي تلك التي إعتدنا عليها زمان عرفات محمد عبدالله و التجاني يوسف بشيروالأساتذة علي المك وصلاح احمد إبراهيم وخالد الكد وقائمة تطول من الأدباء والمبدعين .
نحن نعرف الآن أن تاريخ أدباء السودان والفنانين والمبدعين لا يختلف جوهريا عن تاريخ أي مثقف في أي بلد عربي ، وخاصة في ظل الأنظمة القمعية القابضة بالقوة على السلطة ، حتى أصبح تاريخ مثقفينا مشوار طويل من المحن المستمرة كما يقول الكاتب صلاح عيسى ، ولعله إستكمالا للمحن التي أصابت إبن السكيت الذي قطعوا لسانه من قفاه ، وعبدالله بن المقفع الذي تم التمثيل بجثته ، وصالح بن القدوس الذي أتهم بالزندقة فضربت عنقه ، وعاش إبن تيميه مطاردا ، وإبن حنبل مات في سجنه ، وسعيد بن جبير الذي قتل ، وسليمان الأشدق الذي سقي السم حتى مات .
تماما مثلما حدث ويحدث في بلادي ، فمحمود محمد طه عبقري زمانه مات مشنوقا ولم تغفر له سنواته السبعون ، والمجرمون ما زالوا يعيشون بيننا وبعضهم يحكمون ، والمطرب صاحب الصوت الدافيء الحنون خوجلي عثمان إغتالته سكين الهوس الديني والقاتل يسخر ويضحك ملء شدقيه ، وطه محمد احمد طه الصحفي الشجاع الذي مهما إختلفت معه لا بد أن تحترمه يذبح ذبح الخراف والقتلة ما زالوا أحياء ، ومن لم يمت بالرصاص أو السكين مات موتا بطيئا مثلما حدث مع عثمان خالد ومحمد رضا حسين وحورية حاكم وعمر الدوش وعلي عبدالقيوم ومحمد عمر بشير وليلى المغربي واحمد قباني واحمد عاطف وصلاح أحمد إبراهيم وجيلي عبدالرحمن وأحمد الجابري ، ومن لم يمت موتا بطيئا دهسته سيارة مجنونة مثلما حدث لخالد الكد في شوارع لندن .
وهاهو سامي سالم يعود بعد سنوات الغربة محمولا في نعش ليدفن في مقابر البكري وهو الذي أحيت كتاباته الموتى من القبور . نعم كان سامي سالم في القاهرة شعلة من الحركة والوثوب إلى أمام رغم كل العواصف والضغوط النفسية والإجتماعية والسياسية وعندما أصابه اليأس قبل نظام التوطين فسافر إلى أقصى الغرب الكندي وتجول ما بين ريجاينا وكالكاري وتورنتو ثم إدمنتون حيث توقف نبض قلبه العامر .
ماذا أقول سوى الدعوة إلى الله ليسكنه فسيح جناته والدعوة لأحلام إسماعيل حسن للتماسك وأشد على يدها بقوة .

ذكريات لا تنسى

مسرح اليوم .....مسرح الأمس
بمناسبة مرور أربعين عاما على المسرح السوداني الحديث

ذكريات لا تنسى " 4 "
نأتي الآن إلى الموسم الثاني للمسرح القومي بأمدرمان ، والذي يؤرخ له بعام 1968 / 1969 – فماذا حدث في هذا الموسم ؟
لا بد أن نذكر أهم إنجاز حققه الفكي عبدالرحمن رائد المسرح السوداني الحديث وأولئك الذين وقفوا معه في الموسم السابق ، وهم كثيرون قد ذكرت بعضهم في مقال سابق وفي مقدمتهم الفنان الكبير مكي سنادة ، ولا يقل عنه جهد الآخرين أمثال محمد عثمان وعبدالله الشفيع والحارث ، ولكن أود أن أتوقف هنا عند شخصية لعبت دورا متميزا في إنطلاقة المسرح القومي بأمدرمان ، وكثيرون لا يعرفون هذه الحقيقة ، لأن هذا الرجل ظل يعمل في صمت كل سنوات عمره التي قضاها في المسرح القومي ، شاب وجيه وهاديء وصبور وفنان وإداري من الطراز الأول يندر أن تجد له مثيل في مجال الخدمة المدنية ، وقد كان المسرح القومي في ذلك الوقت يحتاج لمثل هؤلاء الرجال ، إنه الباشكاتب فاروق أحمد علي ، ولقد دهشت كثيرا عندما إستقر بي المقام في القاهرة عام 1990 وإنخرطت في صفوف التجمع الوطني الديموقراطي وتعرفت على المرحوم القائد العسكري الفذ فتحي أحمد علي فعرفت أنه الشقيق الأكبر لفاروق.
فاروق كان الدينامو والمحرك للعملية الإدارية والتي بدونها ما كان يمكن للمسرح القومي أن يحقق أي إنجاز يذكر ، كان فاروق يعي تماما ما هو المطلوب ؟ وكان الفكي عبدالرحمن يقدره ويحبه كثيرا ، وكما قلت في بداية هذا المقال أن أهم إنجاز حققه الفكي عبدالرحمن في هذا الموسم هو تخصيص ميزانية سنوية للمسرح القومي بلغت عشرات الآلاف من الجنيهات ، وما كان من الممكن أن يتحقق ذلك لولا الدقة الشديدة التي كان يتمتع بها فاروق - وسبحان الله – إنها ذات الدقة التي تمتع بها القائد فتحي أحمد علي ، ولأن هذا المقال لا يستطيع أن يستعرض كل التفاصيل فيمكن العودة إلى كتابي " المسرح في السودان " .
وبالطبع لا بد من ذكر أولئك العمال المهرة الذين كانوا يواصلون العمل صباح مساء بتجرد ومحبة غير عادية سواء في الديكور أو الإضاءة أو الستارة وغير ذلك ، ولم تعد ذاكرتي تسعفني لتذكر كل تلك الأسماء الرائعة الذين ضحوا بكل شيء من أجل المسرح ولهم سواء كانوا أحياء أو أموات كل الشكر والتقدير .
منزل جديد
ولكن من المهم الإشارة هنا لأول إنتقال لإدارة المسرح القومي من " البدرون " على شارع النيل إلى منزل فاخر " بلغة ذلك العصر " وكان مواجها ل " قصر الصادق المهدي " بحي الملازمين وهو ذات الشارع الذي كان يسكن فيه فاروق أحمد علي ، وأذكر في صبيحة يوم 25 مايو 1969 حضرت إلى مكتبي في ذات المنزل فوجدت " العسكر " وقد حاصروا منزل الصادق المهدي ، وكان بينهم صديق دراسة ، فتوجهت إليه أسأله عن الأمر فقال لي " يا زول أبعد بعيد إنها ثورة الشعب !!!!وتلك قصة أخرى ليس هذا مكانها .
في هذا الموسم قدمت أربع مسرحيات هي على التوالي :" على عينك يا تاجر " و " ما من بلدنا " و" مأساة الحلاج " و " السلطان الحائر " .
ومن الواضح جدا أن المسرحيتين الأولى والثانية هي مسرحيات سودانية لحما ودما بينما المسرحيتين الثالثة والرابعة هما مسرحيات عربية ، وهنا تنبغي الإشارة إلى أن الفكي عبدالرحمن قرر منذ هذا الموسم أن ينوع في الأعمال المسرحية بحيث تضم مسرحيات سودانية –عربية – عالمية وإفريقية وهذا أيضا إنجاز آخر للفكي عبدالرحمن الذي كما قلنا كان فنانا ومنظرا ولاعبا سياسيا وطنيا وعربيا وإفريقيا وعالميا ، وقد وظف كل إمكانياته ودراساته لخدمة المسرح السوداني .
على عينك يا تاجر
التأليف : بدرالدين هاشم
الإخراج : الفكي عبدالرحمن
بالطبع أن ينبري الفكي عبدالرحمن لإخراج هذه المسرحية لم يكن أمرا مستغربا ، ولقد حدثني الفكي عبدالرحمن ذات نفسه قائلا " هذه آخر مسرحية أخرجها للمسرح القومي وبعدها سأعطي الفرصة للشباب الجدد " ، وهذا ما حدث فقد كانت هذه آخر مسرحية يخرجها الفكي عبدالرحمن وبعدها برزت أسماء حديدة في عالم الإخراج المسرحي ليس في المسرح القومي بأمدرمان بل في المسرح السوداني بشكل عام .
ما من بلدنا
ما من بلدنا كانت المسرحية الثانية وهي من تأليف وإخراج الفاضل سعيد الذي يواصل بهذه المسرحية نشاطه في مجال المسرح الكوميدي الذي تسيده بلا منافس
أما المسرحيات غير السودانية فقد كانتا من المسرح العربي وتحديدا من مصر ، حيث قام عثمان جعفر النصيري بإخراج مسرحية " مأساة الحلاج " لصلاح عبدالصبور ، بينما قام عوض محمد عوض بإخراج مسرحية " السلطان
الحائر " لتوفيق الحكيم .
ملحمة أكتوبر
إلى جانب هذه المسرحيات الأربع فقد شهد الموسم نشاطا آخر تمثل في إخراج مكي سنادة لملحمة أكتوبر التي ألفها الشاعر الكبير هاشم صديق رغم أن سنه في ذلك الوقت لم تكن تزيد عن 19 عاما وقام بتلحينها وأدائها الفنان المتميز محمد الأمين ومشاركة الفنانين عثمان مصطفى وخليل إسماعيل وأم بلينة السنوسي ومجموعة كبيرة من الطلاب والطالبات كانو يمثلون المجاميع أو الكورس الذي يردد فقرات الملحمة ، صحيح أن الملحمة أشهرت الشاعر هاشم صديق ، ولكنها أيضا أشهرت المسرح القومي ، وقد تشرف بحضور العرض عدد كبير من المسؤولين على رأسهم إسماعيل الأزهري ومحمد احمد محجوب وعبدالماجد أبوحسبو ، وكان هذا شرف كبير للمسرح القومي وللفنان محمد الأمين وللشاعر المرهف هاشم صديق ، والذي أصبح إسمه يلمع في الأوساط السودانية بإعتباره شاعر الثورة وشاعر الشعب ، ومنذ ذلك الوقت والفنانون يتلقفون قصائده بكل حماسة حتى أصبح شعره على لسان كل سوداني .
وقد أتيحت لي فرصة حضور جميع بروفات الملحمة التي كان يقودها الفنان الكبير مكي سنادة لدرجة أنني حفظتها مثل غيري من الألف إلى الياء كما يقولون بل كنت مع كثيرين من أبناء جيلي نرددها في كل المناسبات وحتى في حفلات الفرح .
مكي سنادة بعمله هذا إقتحم مجالا غير مطروق في السودان وهي الدراما الغنائية حيث سنرى كيف شكل ثنائيا مبدعا مع هاشم صديق في مسرحيات مثل " نبته حبيبتي " و " أحلام الزمان " .
سيدة الغناء العربي في أمدرمان أما الحدث الثاني فقد كان حضور الفنانة الخالدة أم كلثوم إلى الخرطوم

ذكريات لا تنسى

مسرح الأمس .....مسرح اليوم

بمناسبة مرور أربعين عاما على ا لمسرح الحديث في السودان
ذكريات لا تنسى " 3 "

في عام 1967 وكنت ما أزال طالبا في الثانوي العالي بمدرسة الأهلية الثانوية بأمدرمان ، جمعتني عدة جلسات فنية مع خالي الأستاذ الفنان الكبير الراحل المقيم الفكي عبدالرحمن ، كان يقول لي " يا بني مستقبلك في المسرح " ، وكان وقتها قد " سلفني " مجموعة كبيرة من الكتب المسرحية إشترط علي إعادتها حالما أنتهي من قراءتها ، ولكني كنت سيئا جدا في إعادة الكتب لأصحابها ، ولازمتني هذه الخصلة السيئة طوال حياتي المهنية ، إلى أن جاء اليوم الذي دفعت فيه ثمن تلك الضريبة بأن قام أخواني وأصدقائي بالسطو على جميع كتبي المسرحية وغيرها ، وإذا بي أجد مكتبتي فارغة تماما من الكتب ما عدا بعض الكتب الصفراء التي كنت أزين بها مكتبتي ولم تغرني في أي يوم من الأيام بمطالعتها .
في العام 1968 أكملت المرحلة الثانوية العليا ، وتم قبولي بجامعة القاهرة الفرع ، وكان السبب الرئيسي في ذلك نبوغي الفني المبكر علما بأنني كنت أحصد درجات عالية في مادة " الحساب " ، ووجدت نفسي كارها للجامعة ودراساتها ، وكان من الطبيعي أن أتوجه إلى خالي الفكي عبدالرحمن طالبا منه أن يساعدني في العمل بالمسرح القومي ، ولدهشتي الكبيرة وافق خالي مباشرة وطلب مني أن أحضر إلى مكتبه في اليوم التالي .
وكان اليوم التالي علامة فارقة في كل حياتي وما يزال ، فقد تحول حبي وعشقي للمسرح من مجرد علاقة عاطفية وجدانية وهوى مجنون بالكتب وبشكسبير وبريخت وهنريك إبسن وكورني وراسين وموليير والبير كامو وغيرهم من الكتاب والفنانين المسرحيين ، إلى واقع ملموس ،فقد تم تعييني على بند المرحوم الشريف الهندي بالمسرح القومي بأمدرمان وإذا بالفكي يدفعني دفعا إلى المزيد من مطالعة الكتب فيسند لي مسؤولية المكتبة ، وكانت من إغراءاته لي الإلتحاق بمعهد الموسيقى والمسرح دون أن أفقد وظيفتي في المسرح وأيضا الحصول على بعثة دراسية عن المسرح في إحدى الدول الأوروبية ، وقد تحقق الإغراء الأول بينما فشل التخطيط الثاني فشلا ذريعا بسبب العداء الشديد الذي كان بيني وبين الجهاز الأمني الإستخباراتي .
تواصلت التحضيرات والإستعدادات لبداية المواسم المسرحية بالمسرح القومي بأم درمان ، وبتشجيع من خالي الفكي عبدالرحمن و بما توفر لي من ثقافة مسرحية جعلتني محاورا صعبا للفكي عبدالرحمن ذات نفسه عندما يطرح موضوعا للنقاش . كان الفكي ديموقراطيا بل مدرسة في حرية الرأي والتعبير ، وصراحة أقول لقد علمني الفكي فأحسن تعليمي .
خلال هذه الفترة تعرفت على عثمان جعفر النصيري ، وكان قد تخرج لتوه في جامعة الخرطوم والتحق بالعمل بالمسرح القومي بأم درمان لنشاطه المعروف في المسرح الجامعي ، كان النصيري يكبرني بعدة سنوات ، ولكنه فرض علي إحترامه لذكائه الشديد ، وسرعان ما أصبحت متأثرا به تأثيرا شديدا ، كان يزورني في مكتبي وأنا مسؤول مكتبة المسرح القومي التي كانت في بدايتها ، كان يقضي معي فترات طويلة كان لها أكبر الأثر في تحولي الكبير من مجرد شخص عادي إلى شخص آخر .
أحببته كثيرا ، بجسمه النحيف وعينيه الواسعتين وأنف سيرانو دي بيرجراك وأصبحت أزوره في بيته ومنه تعلمت الكثير ، تعلمت الكثير جدا وما زال الود بيني وبينه قائما !!!!!!!!!!!
إغتنمت مسؤوليتي عن المكتبة فعرضت بعض الأفكار على الأستاذ الفكي عبدالرحمن على تطويرها ، وكعادته لم يبخل ، فقد وافق على كل ما عرضت ، وبالطبع إستعنت بصديقي وأستاذي النصيري فقمنا بشراء كمية محترمة من الكتب المسرحية وغيرها من عدد كبير من المكتبات أذكر في مقدمتها كانت مكتبة القدال .
هذا النشاط أوجد نوع من الإحترام بيني وبين بقية الزملاء في المسرح القومي فبادرت إلى إبداء رغبتي لأستاذي الفكي عبدالرحمن بأن أنتقل إلى مجال
آخر.
وفوجئت به أيضا يوافق وينقلني إلى وظيفة مدير خشبة . لم تكن الوظيفة غريبة علي ، بل كنت أفهم كل ما يحيط بها من نظريات ومهام ومسؤوليات وكنت محظوظا جدا بأن إختارني صديقي وأستاذي عثمان جعفر النصيري لكي أكون مدير خشبة لأول عمل مسرحي له ومن تأليفه وإخراجه فكانت مسرحية " مجلس تأديب " ، وتعرفت أيضا على الراحل المقيم الشاعر علي عبدالقيوم وساعدت في إخراج مسرحية حفل سمر لأجل خمسة حزيران ، وكان له أثر كبير في تشكيل رؤيتي المسرحية والسينمائية ، كما تعرفت على د. خالد المبارك ، وكان هناك خالي الآخر عبدالرحيم الشبلي الذي كتب مسرحيته الشهيرة " أحلام جبرة " . وتعرفت أيضا على أساتذة آخرين أمثال إبراهيم شداد والذي تشرفت بالعمل معه في مسرحيته " المشي على الرموش" والأستاذ الراحل المقيم عوض محمد عوض وعملت معه في المسرحية الشهيرة " الزوبعة " كما تعرفت على فنانين مسرحيين آخرين سيأتي ذكرهم في حلقات قادمة ، أمثال الراحل المقيم محمد رضا حسين وتحية زروق وفتحية محمد احمد ونادية بابكر والريح عبدالقادر ومحمد شريف واسماعيل طه وقائمة تطول من الأسماء اللامعة .
إلا أن أهم محطة في حياتي المسرحية هي العلاقة التي نشأت بيني وبين الشاعر والكاتب والناقد والممثل هاشم صديق ، وما زالت هذه العلاقة ومنذ الستينات قائمة إلى الآن ، والواقع أنني إفتقدته كثيرا في سنوات الغربة الممتدة من السبعينات وإلى اليوم ، ولم يغب عن خاطري أبدا ولذا سأحكي عنه وعن بعض التفاصيل الهامة لاحقا .

ذكريات لا تنسى

مسرح الأمس ....مسرح اليوم
بمناسبة مرور أربعين عاما على المسرح السوداني الحديث


ذكريات لا تنسى " 2"
لا بد من الإشارة إلى أن هذه الذكريات أكتبها و أنشرها للمرة الأولى بناء على رغبة ملحة من عدد كبير من الأصدقاء المسرحيين ، وتلبية لوعد قطعته لأستاذي وخالي الفكي عبدالرحمن في إحدى محادثاتي الهاتفية معه قبل رحيله ويسعدني كثيرا أن تكون صحيفة " الأحداث " أول صحيفة تنشرها بإعتبار " مجانيتها " وحتى يتمكن أكبر قطاع ممكن من الجمهور المسرحي لمطالعتها .
وأقول للمتسائلين : لماذا هذا التأخير ؟ ذلك أني ببساطة لا أحب كتابة المذكرات لأنها توحي بدنو القبر ، وأنا على الرغم من أني على مشارف العقد السادس تتملكني أمنية أن أعيش ستة عقود أخرى فقط لكي أشاهد متغيرات المناخ الجغرافي والسياسي والإجتماعي القادمة ، ولعشق داخلي لمزيد من حياة المكابدة والمشقة .
إفتتاح المواسم المسرحية للمسرح القومي
كان الشاعر الكبير إبراهيم العبادي قد كتب مسرحية " المك نمر " خلال عقد الثلاثينات لتضاف أيضا لمسرحية تاجوج التي كتبها خالد أبو الروس ، وهما مسرحيتان سودانيتان لحما ودما ، ولكن آثر الفكي عبدالرحمن أن يفتتح المواسم المسرحية للمسرح القومي بمسرحية العبادي " المك نمر " حيث قام الفكي بإخراجها ، وهي بالمناسبة المسرحية الأولى التي أخرجها الفكي للمسرح القومي وبعدها أخرج مسرحية " على عينك يا تاجر "ثم توقف عن الإخراج ، ذلك لأنه إنشغل بعدها بإدارة شؤون المسرح ذات نفسه وكانت مهمته دون أدنى شك في غاية الصعوبة والتعقيد ، لأنه وفي غضون فترة وجيزة تنوعت وإزدادت أنشطة المسرح القومي حتى أصبح قبلة لكل سكان العاصمة المثلثة ، فصالة المسرح تمتليء عندما تكون هناك مسرحية كما تمتليء في الحفلات الغنائية بنوعية خاصة من الجمهور يحجزون المقاعد الأمامية تفوح منهم ريحة المسك والعنبر .
لماذا " المك نمر " ؟
في إحدى جلسات الغداء سألت الفكي عبدالرحمن : لماذا إخترت مسرحية " المك نمر " كبداية ؟ ألم تكن تاجوج أكثر شهرة منها ؟
قال لي تاجوج قصة حب لا تختلف كثيرا عن روميو وجوليت رائعة شكسبير الخالدة ، ولكني كنت أبحث عن شيء يتعلق بالشخصية السودانية ، بالهوية السودانية فوجدت ذلك في " المك نمر " ، كنت في ذلك الوقت وأنا ما أزال طالبا بالثانوية كتبت مقالا بمجلة الإذاعة والتلفزيون عن مسرحية " المك نمر " وأشرت في صلب المقال على ما أذكر إلى أن العبادي كان في مسرحيته عروبيا مناصرا للقبائل العربية عندما يتحدث عن الهوية السودانية ، بينما الفكي بتدخله في النص المسرحي وإضافة قبيلة الزاندي تمكن من تحويل المسرحية إلى وجهة تعني بكل قبائل السودان " .
سنار المحروسة
" سنار المحروسة " كانت المسرحية الثانية ضمن موسم " 1967 – 1968 وهي من تأليف وإخراج الطاهر شبيكة ، سليل أسرة شبيكة المعروفة ، ومن الواضح جدا أن إسم المسرحية يعكس ما يود شبيكة طرحه في تلك الفترة ، وقد كان الفكي عبدالرحمن موفقا تماما عندما وقع إختياره على الطاهر شبيكة ومسرحيته " سنار المحروسة " ، لأنه بذلك الإختيار ربط مسيرة المسرح السوداني الحديث منذ البداية بالخط الوطني ، وهو ما فجر فيما بعد ذلك الصراع الرهيب بين المسرح والسياسة ، أو بمعنى أصح بين المسرح والقوى الأمنية التي حاصرته في جميع الأعمال المسرحية التحريضية ، كما حاصرت الكتاب والمخرجين الذين آمنوا برسالة المسرح كفن يدعو للتوعية والإدراك والفهم للقضية الوطنية .
خراب سوبا
هي المسرحية الثالثة في ذلك الموسم الإفتتاحي ، وهي أيضا تكشف عن مدى وعي الفكي عبدالرحمن وإدراكه لفن المسرح ، والواقع أن المسرحية قدمت بإسم " إبليس " التي ألفها الكاتب والشاعر القدير خالد أبوالروس عام 1964 وأخرجها أحمد عثمان عيسى ، وهي أيضا رغم كثرة الخطوط الدرامية في المسرحية إلا أنها تصب في ذات الوجهة بالبحث عن الهوية حتى في داخل تلك الثورة السنارية المعروفة التي جعلت كتابا وشعراء فيما بعد مثل محمد عبدالحي وعثمان النور أبكر يوجدون ما عرف ب " العودة إلى سنار " .
أكل عيش وهذه هي المسرحية الرابعة والأخيرة التي أختتم بها أول موسم مسرحي للمسرح القومي بأمدرمان وكانت من تأليف وإخراج الفنان الكوميدي الراحل المقيم الفاضل سعيد والذي أصبح فيما بعد من أعمدة كتاب ومخرجي الحركة

الجمعة، 8 فبراير 2008

كلمات لها معنى

أبدأ أتصوف
معناك
حيث تنهضين كحمامة وتضحكين كساقية فرح

كلمات لها معنى

حبك
تعويذتي التي أحترس بها
من الخيبات والحروب ووحوش العالم

الخميس، 7 فبراير 2008

كلمات لها معنى

كلنا كالقمر له جانب مظلم

السبت، 2 فبراير 2008

أجمل الأغاني

حورية في السودان بحبي ليك أبوح
يا عنب جناين النيل

من الشعر الحلمنتيشي

مدد يا رب مدد
كسرت الكأس
شرائحه ملأت غرفتي
ماذا أكتب ؟
وكيف أكتب ؟
سأكتب بالشرائح الزجاجية
بأصابعي على الحوائط الخشبية
بأحاسيسي
ومشاعري
سأكتب عنها
عن التي أحببتها
وأحببت عيونها العسلية
هل هي تراجيديا ؟
أم حكاية كوميدية ؟
.....
حاجة تصلح تكتب رواية
أو دراما ملحمية
ربما قصيدة ساخرة
أو ترسم
في لوحة تشكيلية
كنت بقاتل لإسقاط النظام
وطلع كلو مجرد أحلام
فالح بس للمكالمات الهاتفية
وبيع الكلمات العاطفية
عبارات سوقية
شعارات النضال والوطنية
والكلام المعسول
عن الحرية والديوقراطية
أصبح زي الطعمية بالمهلبية
........
كلمنا كيف تعمل صحبية ؟
وأنت عامل زي خروف الضحية
منتظر نهايتك بكرة الصبحية
يا كلب يا بن الأوانطجية !!!!!!!!!!

من الشعر الحلمنتيشي

الدجاجة والبغل
أظل ساهرا سارحا
فيك
كيف هذا العشق
كيف يحتويك
متى أراك .. المس شعرك
وأقبل فيك
ما خلاص حبي بيحتويك
سيك سيك
معلق فيك
كر علينا
تجي ولا أجيك ؟؟؟
يا حرام هناك دجاجة مسكينة
وفي تورنتو واحد بغل وديك

مسرح الأمس .........مسرح اليوم

بمناسبة مرور أربعين عاما على المسرح الحديث في السودان
ذكريات لا تنسى " 1"
في مثل هذه الأيام من عام 1967 كانت الإستعدادات تجري على قدم وساق من أجل إنطلاق حركة جديدة على خشبة المسرح القومي بأمدرمان ، ترأسها بإقتدار شد يد الفنان الراحل الفكي عبدالرحمن ، وساعده في ذلك نخبة من الفنانين السودانيين في شتى حقول الفن والثقافة ، تطوعوا جميعا للعمل من أجل مسرح سوداني أصيل .
كانت البداية صعبة جدا ومليئة بالمخاطر والمغامرة ، ولكن ما من أحد كان يحفل بذلك ، لقد عقدوا العزم على تحقيق الهدف ، بدءا من تغيير صالة
المسرح وخشبته و" البدرون " وكل بما يحيط بالمبنى داخليا وخارجيا ، مرورا بالطبع بالمكاتب وغرف المكياج والإضاءة والديكور وغيرها من مستلزمات الفن المسرحي .
ولكن كان أكثر ما يهم الفكي عبدالرحمن هو محتوى ذلك المسرح ، بمعنى آخر ما هي نوع المسرحيات التي ستقدم فيه ، خاصة وهو يواجه فقرا شديدا في المسرحيات السودانية التي يمكن أن تسد الفراغ ، ويواجه فقرا أيضا في القوى البشرية والمادية ومواجهة ثالثة تتمثل في الجهة المشرفة على هذا العمل الكبير والممثلة في وزارة الإعلام .
لن نتوقف هنا طويلا عند تلك المصاعب والتحديات فقد كان الفكي عبدالرحمن الرجل المناسب في المكان المناسب ، وكان أولئك النفر في المكان المناسب تماما ، أمثال مكي سنادة ، عبدالله الشريف ، الحارث ، محمد عثمان ، عمر الفاروق ، عثمان قمر الأنبياء ، عثمان أحمد حمد " أبو دليبة " ، محمود سراج " أبو قبورة " ، الفاضل سعيد ، عثمان أحمد حميدة " تورالجر " ، عبدالوهاب الجعفري ، عثمان النصيري ، خالد المبارك ، علي عبد القيوم ، صالح الأمين ، مهدي حسن مهدي ، حيدر ، فاروق ، علي أمين المخزن ، محمد شريف ، محمد عثمان المصري ، وكوكبة كبيرة من عمال الديكور والإضاءة والستارة والملابس والميكياج إنضم إليهم لاحقا الفنانة ميرفت وأخواتها من الفنانات والموظفات السودانيات ، وعم إسماعيل وسابو ، صلاح تركاب ، تحية زروق ، فتحية محمد احمد ، علوية ، إسماعيل طه ، عوض صديق ، أنور محمد عثمان ، محمد رضا ، صلاح قولة ، عمر براق ، الطاهر شبيكة ، عمر الخضر ، عوض محمد عوض ، الريح عبدالقادر ، الطيب المهدي ، علي مهدي و ألف معذرة للذين سقطت أسماهم في هذه القائمة والذين سيأتي ذكرهم في حلقات قادمة .
كان مشهدا مالوفا ولعدة سنين أن ترى عشرات المشاهدين من وإلى المسرح القومي من أبو روف وبيت المال والموردة والمحطة الوسطى بأمدرمان بأرجلهم مما جعل وزارة المواصلات تخصص باصا لنقلهم من المحطة الوسطى بأم درمان وإلى المسرح القومي حتى أصبح الباص من أشهرها عندما أصبح من ركابه كبار الممثلين والممثلات .
الممثل الكبير عوض صديق مثلا كان يمتلك عربة " فولكسواجن " وكان من الصعب جدا أن يصحبه أي أحد مهما كان في عربته وهو متجها إلى منزله ، وكان من الصعب جدا أن تأخذ سيجارة من صندوق علبته " البنسون " والتي على إستعداد أن يرميها على الأرض للإيحاء بأنها فارغة ، بل كان يصطاد السمك أو يقطف الليمون من النيل ليتجنب شراؤه من السوق .
كان صلاح تركاب يمتلك عربة ومثله أيضا مهدي حسن مهدي وعثمان قمر الأنبياء ، وهذا الأخير قدت عربته بدون رخصة وصدمت بها مدخل مكاتب الفنون المسرحية والإستعراضية التي أنشأها الفكي عبدالرحمن مؤخرا وجعل من قمر الأنبياء مديرا لها ، وإضطررت أن أدفع مبلغ عشرين جنيها ثمنا لإصلاح ما لحق بها من تلف .
ولكن لم يستطع الفكي أن يجعل المسرح خاصا بتقديم المسرحيات فقد طاردته لعنة حكومة نوفمبر ، وهي ذات الحكومة التي بنت المسرح عام 1959 لإشغال الناس بحفلات السمر السودانية والعربية والأجنبية ، بل هي كانت الأكثر أهمية من الدراما وكانت تشكل عصب برنامج المسرح القومي لسنين طويلة وحتى عندما نشأت مباني أخرى مثل قاعة الصداقة الصينية السودانية ، فانتقلت العدوى إليها وإلى مسارح الأقاليم هي أيضا .
والحقيقة أن الفكي ومجموعة كبيرة من الفنانين المسرحيين بذلوا جهدا كبيرا لجعل المسرح القومي مكانا للإستمتاع بلغة الدراما خاصة وأن عددا كبيرا من خريجي جامعة الخرطوم ومدارس التربية والتعليم ولاحقا معهد الموسيقى والمسرح قد إنضموا إلى العاملين بالمسرح القومي مما كان له الأثر الكبير لتثبيت برنامج المسرحيات الدرامية ، وتوفير ميزانية خاصة تصرف عليها .
كان الفكي عبدالرحمن متفهما تماما لتعقيدات الأمر ، فوزارة الإعلام لم تكن تحفل بالدراما ، وبذلك كانت خشبة المسرح القومي بأمدرمان تحفل بالسهرات الغنائية وفرق الفنون الشعبية والأكروبات إلى جانب المسرحيات التي تنوعت إتجاهاتها ما بين مسرحيات سودانية لحما ودما ومسرحيات عربية وإفريقية وحتى من الأدب المسرحي العالمي مما سيأتي ذكره لاحقا .
وسرعان ما إشتدت المنافسة بين مجموعة الدراما ومجموعة الغناء والسمر وهذه الأخيرة أضرت كثيرا بمسيرة المسرح القومي الذي شهدت أروقته صراعا عاتيا بدخول الأجهزة الأمنية الإستخباراتية سواء في فترة الديموقراطية الثانية أو فترة نظام مايو وما بعد ذلك .
ولا يخفى على أحد أن المسرح القومي كان أحد الأضلاع الثلاثة لما كان يطلق عليه " الحوش " أي المسرح ، الإذاعة والتلفزيون إلى جانب نشاط خفيف لمركز الإنتاج السينمائي . وعلى الرغم من التعاون الواضح بين هذه الأجهزة إلا أن العبء الأكبر وقع على المسرح القومي في صدامه الشديد والعنيف ضد تدخلات الأجهزة الأمنية مما أيضا سنفصله في حلقة قادمة .

حب فوق هضبة الهرم



سينما الأمس ........سينما اليومحب فوق هضبة الهرم للمخرج العبقري عاطف الطيب
والفن الحقيقي هو الذي يعرف كيف يطرح السؤال

لعل فيلم " حب فوق هضبة الهرم " الذي أخرجه عاطف الطيب بعد نجاح فيلمه " سواق الأوتوبيس " هو الفيلم الذي وضع هذا المخرج الذي رحل مبكرا في مصاف كبار مخرجي جيله ، وواحد من الوجوه الكبيرة التي أحيت السينما المصرية وأعادت إليها قوتها ، ولكنه رحل قبل أن يقول كل ما عنده ، خطفه الموت وهو في زهرة شبابه ، فخلف حزنا شديدا ما يزال يفجعنا ويؤلمنا ، لأن عاطف الطيب حقيقة مخرج عبقري وفنان كبير .
الفيلم من إنتاج عام 1986 عن قصة نجيب محفوظ وسيناريو وحوار مصطفى محرم وبطولة أحمد زكي – آثار الحكيم – أحمد راتب – نجاح الموجي وحنان شوقي ، ويبدأ الفيلم بأن تتم خطبة رجاء على زميلها في الشركة علي ، ويفشل علي في الحصول على عقد في إحدى الدول العربية ويشعر بالإحباط مع رجاء ، فلا أمل في تغيير ظروفه وتحسينها مع إستحالة حل المشكلة السكانية ، فيتزوجان ويخفيان الأمر على أسرتيهما ، وعندما يفشل في العثور على المكان المناسب للإلتقاء يذهبان إلى هضبة الهرم ، وتقبض عليه شرطة الآداب ، وتفاجأ الأسرتان بما حدث ، فيتم ترحيلهما لمحاكمتهما على إرتكاب فعل فاضح في الطريق العام ، ويتفق المحبان على المطالبة بإقامتهما في زنزانة واحدة لممارسة حقهما في الحياة الزوجية .
الشباب والمشاكل النفسية والإجتماعية
الفيلم كما قلنا مأخوذ عن قصة طويلة لنجيب محفوظ ، وواضح أنه إستعرض فيها المشاكل المادية والنفسية والإجتماعية التي تواجه الشباب عندما يحاولون بناء حياتهم ، فإعتمد الفيلم على الخط الرئيسي للقصة وأضاف إليها الكثير من التفاصيل الجانبية المأخوذة من واقع الحياة المصرية ، مما أعطاه بعدا مميزا وجعله وثيق الصلة بالتيار الإجتماعي السائد والهم الجاثم على قلوب الشباب .
إعتمد عاطف الطيب في إخراجه لهذا الفيلم على الأسلوب الواقعي المغلف بشاعرية شعبية شفافة ، وبمحاولة صادقة على دفع المتفرج على التعاطف مع بطليه من خلال كاميرا مدروسة للغاية ، وتسلسل سلس للأحداث يضاف إلى ذلك حسه بقدرات ممثليه الرئيسيين ومحاولة إستغلال هذه القدرات وإحساسه القوي بالمكان الذي حاول جاهدا أن يبتعد به عن الديكور التقليدي ، وأن يرسم صورة صادقة للقاهرة بضجتها وضجيجها وإختناقها ، ثم كشف مواطن الجمال المدهشة الخبيئة بها من خلال رحلة البطلين اليائسة للوصول إلى حل ينقذ علاقتهما من ظروف إقتصادية معينة تهددهمت بكارثة محققة .
النجم الكبير أحمد زكي
وفيلم حب فوق هضبة الهرم الذي حاز على عدة جوائز محلية ومثل مصر رسميا في أحد فروع مهرجان كان السينمائي ، لم يكن فقط الفيلم الذي ثبت قدمي عاطف الطيب على خارطة السينما المصرية ، بل كان أيضا بدء الإنطلاقة الحقيقية للنجومية الكبرى التي تمتع بها النجم الكبير الراحل المقيم أحمد زكي .
أحمد زكي في هذا الفيلم إستطاع أن يكون الشاب المصري بنموذجه السائد بقلقهوبروح الأمل المشعة في أعماقه ، بإحباطه ، بثورته ، بفرحه وسعادته ، بسذاجته الفطرية وذكاءه ثم بغضبه وعنفوانه .
إستطاع أحمد زكي في هذا الفيلم أن يجمع بين كبرياء وهوان الشخصية التي رسمها نجيب محفوظ ، ثم أن يضيف إليها من إبداعه ومن وجوده الكهربائي على الشاشة الشيء الكثير .
كما إستطاعت آثار الحكيم في أول بطولة مطلقة لها ، أن تؤكد نفسها وموهبتها وحاجة السينما المصرية إلى هذا النموذج الجديد الذي تقدمه ، نموذج الفتاة المتحررة الواثقة من نفسها التي قررت أن تحقق ذاتها دون أن تفقد أي جزء من أخلاقياتها ، حب فوق هضبة الهرم فيلم يحتل مكانة خاصة في أفلام الثمانينات نظرا لجرأته وطرحه موضوعا إجتماعيا حارقا ، عالجه بطريقة أخلاقية صارمة ، وتركه معلقا فوق ضمائرنا نحاول أن نجيب عليه ، معتمدا على المقولة الشهيرة التي تقول " الفن الحقيقي هو الفن الذي يعرف كيف يطرح السؤال دون أن يضطر لوضع الجواب .

أفلام عاطف الطيب

1982 الغيرة القاتلة
1983 سواق الأتوبيس
1984 التخشيبة
1985 البريء
1986 ملف في الآداب
1986 حب فوق هضبة الهرم





الآنسة حنفي


سينما الأمس ........سينما اليومالآنسة حنفي والتحول الكامل من رجل إلى إمرأة
وفطين عبدالوهاب مخرج الكوميديا الأول في السينما



فطين عبدالوهاب مخرج موهوب ، ويظل دائما في مقدمة مخرجي السينما المصرية ، الذين أعطوها تألقهم وإبداعهم ، وما تزال أفلامهم تلقى التقدير والإعجاب ، تمر السنون فتزداد تألقا ورواجا .
أشتهر فطين عبدالوهاب بأفلامه الكوميدية التي جسد فيها أروع المواقف الضاحكة التي تبقى خالدة في ذاكرة الزمن ، من بين تلك الأفلام العظيمة فيلم " الآنسة حنفي " عام 1954 ، والذي كتب له السيناريو والحوار جليل البنداري وبطولة ماجدة مع إسماعيل ياسين وسليمان نجيب وزينات صدقي .
في الفيلم يزوج المعلم كتكوت الجزار إبنه الوحيد حنفي إلى نواعم إبنة زوجته حسب رغبة زوجة الأب ، رغم أن نواعم تحب حسن الطالب بالطب البيطري ، وتشاء الظروف أن يصاب حنفي بمغص حاد في ليلة زفافه ، فينقل إلى المستشفى حيث تجرى له عملية جراحية يتحول بعدها إلى إمرأة تقع في حب أبوسريع العامل في محل جزارة والدها فتهرب وتتزوجه ، وتعود لمنزل والدها بعد فترة حيث تضع أربعة أطفال توائم وتتزوج نواعم من حسن .
حكاية تمثيل الرجل لدور المرأة
إنها ليست المرة الأولى التي يقوم فيها ممثل شهير بتمثيل دور إمرأة ، فهناك أكثر من مثال في السينما الأمريكية والأوروبية والمصرية ، لعل أشهرها جميعا فيلم " البعض يحبونها ساخنة " حيث قام جاك ليمون وتوني كيرتس بالتنكر النسائي طوال الفيلم أمام فاتنة السينما مارلين مونرو ، كذلك داستن هوفمان في فيلم " توتسي " وروبين وليامز في فيلم " مستر بتفاير " .
أما في السينما المصرية فهناك عبدالمنعم إبراهيم وفيلمه الشهير " سكر هانم " ، وإسماعيل ياسين في" الآنسة حنفي " والذي يقوم على فكرة " التحول الكامل " وليس على مجرد التنكر .
الفيلم جريء جدا بالنسبة لعصره ، ورغم محاولات أستاذ الكوميديا فطين عبدالوهاب تلطيف بعض المواقف فإن الفيلم يقوم على دراسة نفسية صحيحة لرجل تكمن في داخله أنثى ، ومن حسن الحظ أن جليل البنداري كاتب القصة والسيناريو قد عرف كيف يحول هذا الموضوع الدقيق إلى كوميديا ضاحكة إستطاع أن يعالج في خلفيتها كثيرا من المشاكل الإجتماعية كقضية التعصب وحقوق المرأة ودور الخاطبة في بعض الأسر المحافظة .






الإمبراطور

سينما الأمس .......سينما اليوم
يكتبها بدرالدين حسن علي

( الإمبراطور ) والفن عندما يكون مرآة لمشاكل المجتمع النجم أحمد زكي عفوية وصدق وقوة تقمص الشخصية

أفلام المخدرات سلاح ذو حدين ، فهي دون شك تعكس دور الفن بأنه مرآة حقيقية للمشاكل التي يتعرض لها المجتمع ، وأن لا بد للسينما أن تواجه هذا الخطر الكبير الذي يهدد شبابنا .. شريان الحياة لمستقيلنا ، وأن تكشف عن المخاطر والنتائج المرعبة التي يمكن أن يسببها إنتشار المخدرات بين هذه الزهور الصغيرة التي لا زالت تتفتح للحياة ، ولكن هذه الأفلام في الوقت نفسه إذا لم يحسن تقديمها وكتابتها تكون نموذجا خطرا يشدجع الشباب على التردي في طريق الهاوية عوضا عن أن يبعده عنها ، والأمثلة كثيرة مع الأسف عن هذه النماذج السيئة من أفلام المخدرات التي تركت أثرا سلبيا وهددت الأخلاق العامة عوضا عن أن تحميها .
" الإمبراطور " من الأفلام التي تمثل سينما التسعينات حيث أنتج عام 1990 من تأليف فايز غالي وفكرته مستوحاة من فيلم " الوجه ذو الندبة " ومن إخراج طارق العريان والبطولة للنجم أحمد زكي ورغدة ومحمود حميدة وأبو بكر عزت .
وقصة الفيلم تدور حول زينهم وإبراهيم حيث يعملان بعد الإفراج عنهما مع تاجر المخدرات سليم ، ثم يستقل عنه زينهم ويعاونه إبراهيم ، ويتوسع في أعماله غير المشروعة ، فيخطط سليم للتخلص منه ، فيقتله زينهم ، ويتزوج من عشيقة سليم الراقصة حياة ، والتي تضيق بتكالبه على المال وجرئمه المتكررة فتستسلم للهيروين ، ويحقق معه مكتب المدعي الإشتراكي لمصدر ثروته المريب ، ولكن محسبيه ومحاميه يثبتون براءته ، فيستسلم هو أيضا للهيروين بعد أن تتخلص حياة من الجنين الذي يتوق إليه ، ويقتل زينهم إبراهيم بعد أن يظن أنه يخونه مع حياة ثم يلقى مصرعه على أيدي أحد منافسيه .
أول فيلم لطارق العريان
" الإمبراطور " هو الفيلم الأول للمخرج طارق العريان ، ويحاول فيه أن يكشف ما وراء الستار في حياة تاجر مخدرات كبير ، وكيف إنزلق إلى هذا العالم ، وكيف فقد إنسانيته ، وانحرف وغاص في بحر الجريمة .... ثم كيف مات معنويا قبل أن يموت ماديا على يد رجال الشرطة .
والفيلم كما قلنا مقتبس من الفيلم الأمريكي الشهير " الوجه ذو الندبة " لبريان دي بالي مع تغييرات طفيفة تلائم المجتمع المصري وشروطه ، ولكن الرائحة الأمريكية لا زالت تفوح منه حتى في أسلوب الإخراج الذي إتبعه طارق العريان ، وحذا به حذو المخرج الأمريكي خصوصا في مشهد النهاية الذي تقتحم فيه الشرطة منزل زعيم المخدرات وتتساقط الضحايا كالعصافير والذي يصعب حقا تصور وقوعه في مجتمع عربي اللهم إلا إذا كان الهدف هو التشويق والإثارة .
ولكن رغم كل هذه التحفظات يبقى فيلم " الإمبراطور " فيلما مصنوعا بعناية ومن خلال إنتاج باذخ ومبهر ، وهو فعلا مليء بالتشويق والحركة ، ويعكس حقا روح الشباب الكامنة لدى المخرج في ذلك الوقت والتي كانت تؤكد عطاءات سينمائية مستقبلية لذات المخرج .
أحمد زكي وبلوغ القمة
في فيلم " الإمبراطور" يقدم أحمد زكي دورا شديد الصعوبة ينجح الممثل الكبير في تجاوزه بسهولة ، ويثبت من خلاله أنه واحد من أهم ممثلي عصره ، وهذا ما أكدته نجوميته المتصاعدة والتي بلغت القمة قبل رحيله النبيل بسبب مرض السرطان الذي داهمه وخطفه الموت قبل أن يكمل رسالته كممثل نابغ وفنان قل أن يجود الدهر بممثله ، ومن منا ينسى أدواره في " زوجة رجل مهم " و " إمرأة واحدة لا تكفي " و " سواق الهانم " و ناصر 56 " و" إستاكوزا " و " البريء " و حليم " الفيلم الذي لم يكمل أداء دوره فيه ... وغيرها من الأفلام الناجحة .
إنه ممثل يتميز بعفويته وصدقه وقوة تقمصه للشخصية التي يمثلها ، وأنه حاضر ياستمرار في هذا الفيلم الذي يضيئه ويشد من أزره ، ويقنعنا أحيانا من خلال أدائه بما عجز السيناريو والإخراج عن إقناعنا به ، فقد إستطاع أحمد زكي أن يدخل من خلال " مصريته " الصميمة إلى قلب كل مصري وبالتالى إلى قلوب كل العرب وعلى مستوى عالمي بدفء إحساسه وبتكنيكه التمثيلي المتقدم ، بحيث ينافس ممثلي العالم الكبار في أمريكا وأوروبا ، وقطعا يتقدم الصفوف الأمامية .
ومحمود حميدة في دور الصديق يقوم بأول دور هام له على الشاشة ، دور فتح له بعد ذلك أبواب الشاشة المصرية على مصراعيها ليصبح بدوره هو أيضا واحدا من عدة نجوم قليلة تعتمد عليها هذه السينما في إنتاجها الكبير ، فهو في هذا الفيلم يقدم دورا مركبا شديد التعقيد ، ولكنه ينجح في أدائه وينجح أيضا في الوقوف أمام أحمد زكي ، وهو رهان صعب كسب فيه محمود حميدة بجدارة .
أما الممثلة السورية الأصل " رغدة " فهي تتجاوز أيضا وصف المرأة الجميلة الذي ألصق بها في بداية صعودها لتقدم أداء تمثيليا مقنعا لزوجة زعيم مخدرات التي تدمن المخدرات وتسقط فريسة لها ، وتتسبب دون قصد في جريمة قتل الصديق ، لقد أدت رغدة دورها بإقناع ، وأثبتت أنها تستطيع أن تكون ممثلة ناجحة بقدر ما هي جميلة وحسناء .
يبقى بعد القول أن فيلم " الإمبراطور " أول أفلام طارق العريان ، ورغم وضوح إقتباسه قد حقق نجاحا تجاريا ملحوظا ، واستمر عرضه لأسابيع طويلة بفضل جرأة موضوعه وقوة أبطاله ، مما يؤكد نجاح طارق العريان وتأكيد نفسه على خارطة السينما المصرية منذ فيلمه الأول وهو أمر صعب يستحق عليه التهنئة .