بانوراما أخبار العرب الثقافية
بين ميدان التحرير المصري وميدان جاكسون السوداني
بدرالدين حسن علي
إطلعت على مقال منشور في موقع " نيوميديا نايل " للكاتب الفاتح حمد ، استخدم فيه الكاتب لغة رصينة هادئة عن الأوضاع الراهنة في السودان ، وأجاب فيه عن السؤال المهم الذي يشغل بال كل المهتمين بالأوضاع السياسية العربية في الوقت الحاضر وفي مقدمتها الأوضاع في السودان الذي فجر شعبه ثورتين شعبيتين في أكتوبر 1964 وفي أبريل 1985 ، وبذلك هو الشعب الوحيد الذي أسقط نظامين عسكريين في القرن الماضي ، وقبل شهور قليلة سقط النظام في تونس وفي مصر وتتجه رياح التغيير نحو اليمن وليبيا وسوريا ، ومع رياح التغيير يبرز السؤال : ماذا عن السودان ؟
للأسف الشديد هناك حالة ضبابية تكتنف الوضع في السودان على الرغم من نضوج كل الشروط الموضوعية في السودان لكي يحدث التغيير .
إذن لماذا التأخير ؟ سؤال مهم ومشروع !!!!!
تعالوا نقرأ معا ماذا قال الفاتح حمد في مقاله :
.
في السودان الكبير مشير كامل النجوم والنياشين، لم يحصل على واحدة منها في حرب خارجية. لم يصد عن ترابه أحذية معادية، ولم يطلق رصاصه باتجاه "العدو". بل نال ترفيعاته وترقياته وهو يحارب بعض أهله في الجنوب. ثم اهتبل السلطة بليل، متعاهداً مع شيخ المتأسلمين على السمع والطاعة. فحكم وطغا، وتجبر وأعدم وجوّع وأفقر.
وهو من بعد ملاحق بمذكرة جلب دولية، كأول رئيس نافذ الكلمة تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية بجرائم حرب واخريات ضد الانسانية. وضحاياه بعض أهله أيضاً، من حفظة القرآن في دارفور، أهل المحمل والكسوة لبيت الله الحرام يوم أن كان الخليج ونفطه كله خياماً ثللاً متناحرة وبعض معيز وإبل.
مبارك من جيل صنع أسطورة مصر العسكرية، وبعض فريق جعلوا بلادهم مرهوبة الجانب، يحسب حسابها سياسياً وعسكرياً حساباً لا يغادر فاصلة، ولا يهمل كسراً عشرياً.
ومع ذلك، لم يعصمه تأريخه العسكري الباهر، ولا انجازاته المدنية المحسوبة دون جارف الهتاف حين قال شعبه: لأ.
.
أما المشير البشير، فلائحة شرف انجازاته الحربية لا تبدأ من مئات الآلاف الجنوبيين الذين أحرقتهم قنابل جيش بلادهم الحكومية، وتفجرت بهم ألغامه، واخترقتهم رصاصاته، ولا تنتهي بقبوله المذل لقضم جيرانه حلايب وأخواتها دون أن يطرف له جفن.
لكن البشير ليس هو كل نظام الانقاذ، مثلما لم يكن مبارك هو كله النظام الحاكم في مصر. فدون البشير بطانة سوء استمرأت أكل السحت حتى بطنت، وأغواها أن مدّ الله لهم مداً فأمِنوا أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. حالوا بين الناس وأرزاقهم، وقطعوا الطريق بالجبايات، وأزهقوا أرواحاً عزيزة.
لو لم يقتل أهل الإنقاذ أحداً سوى مجدي محجوب لأخذهم دمه اسفل سافلين. لو لم يقتل أهل الإنقاذ برصاصهم سوى مئات الأطفال في معسكر العيلفون للعنتهم ملائكة السماء وبشرية الأرض إلى يوم يبعثون. لكنهم بين هذا وبين هؤلاء سفكوا دماء في كجبار وبورتسودان وأمري وأخريات لم نعلمهم، لكن الله عنده أم الكتاب.
لو لم يسرق أهل الإنقاذ شيئاً سوى المليارات منذ دخول النفط ميزانية الدولة، لكفاهم جريمة تتقطع لها أيديهم، لكنهم فوق ذلك سحقوا الناس سحقاً بالضرائب والمكوس والجبايات على اختلافها، وأعطوا أهل النفاق والمداهنة، ومنعوا اليتامى المساكين والأرامل، وجعلوا "سلة غذاء العالم" أرض مسغبة تتداعى لها الأمم بالتبرعات وبالإغاثات العاجلة.
لو لم يفرط أهل الإنقاذ في شبر من تراب السودان سوى حلايب، لكفتهم ذلة وسوء تدبير إلى يوم تدول دولتهم الفاسدة المتجبرة. لكنهم أمعنوا في اللهو بوناً بعيداً، حتى انفرط جنوب السودان عن بقيته، وحارت بهم موائد الدوحة وقبلها أبوجا وعواصم أخرى حتى اوشكت دارفور أن تلحق به غير بعيد.
.
نسى أهل الإنقاذ أو تناسوا أن للثورة أشراطها، إن اكتملت فلن يغني عنهم جندهم والأسلحة التي يكنزون.
تغابى أهل الإنقاذ أو محوا من ذاكرتهم القصيرة أن مساكين الخرطوم وهامد صوتها اشتعل في أكتوبر وفي أبريل، لم تسكت صوتهم لعلعة الرصاص يتطاير حاصداً النفوس الكريمة، ولم يسكت صوت الخرطوم هدير المجنزرات في شوارعها. ذهب عبود وبعده نميري بهتاف الناس وصبرهم على شمس الخرطوم نهارات رائعات في خاصرة أكتوبر وفي قلب مارس ورأس أبريل.
لا،رياح التغييرالتي أكلت بن علي ونظامه المتجبر السفاك، ومحت مبارك وأعوانه كأن لم يكون، وهزت الجزائر واليمن والأردن، بل حتى وأجبرت بنيامين نتانياهو رئيس وزراء اسرائيل- عدو العرب التأريخي- يفطن ويجري تغييرات اقتصادية تستبق بذرة الرفض، تلك الرياح هبوبها جنوباً أمر لا مفر منه.
هي آتية، وفي طيها لعنات كل أم ثكلى دفنت فلذتها- فطيساً في قبيح فتوى الشيخ الأفعوان- في تراب الجنوب الراحل إلى دولته، وفي سمومها دعوات كل أب حار دليله وأعجزه الضيق أن يطعم أفراخه اللقمة الحلال، وفي عصفها كل روح طاهرة أكلتها نار "الإنقاذ" في انقلابها وانقلاباتها المضادة (معلنها والمسكوت عنه)، وفي عزيفها احتساب كل مهاجر طردته حرب "الولاء والكفاءة" عن أمن بيته لأصقاع يكابد بردها وذلّ اللجوء فيها، وفي سافياتها نقمات الشباب الغض الذي لا يدري أين يذهب بأحلامه إن غير ذي ظهير في دهاليز "الحكومة"، وفي.. وفي..
في هؤلاء وأولئك غضب سيهوي ببناء الإنقاذ إلى درك سحيق، ومنهم ستخرج الجذوة التي تشعل الثورة اليوم، أو غداً.
لماذا؟
ليس لأن شعبي مصر وتونس هما مثال يتعلم منه أهل السودان أن حائط الخوف- مهما ثخن- قصير. لا، لإاكتوبر وأبريل المتقدم ذكرهن يثبتن أن في الصمت كلاما. بل الأحرى، أن سكوت الخرطوم وأريافها مسنود إلى أشراط يتراكمن منذ عقدين، لم يفشلهن تقلب المهدي والميرغني وبينهما نقد وأضرابه بين الصياح الأجوف وبين المهادنة الخجلى. ولم يفت في عضد تلك الأشراط تهديد البشير ووعيد قوش وأذنابهما بقطع الأوصال، وسحل الناس وتحطميهم كنمل سليمان.
إن الذي أخرج شباباً يانعاً في ميدان "جاكسون" وفي أعطاف "مجمع طب" وفي غبار مدني وسوق كوستي وشوارع الأبيض، قادر على أن يخرج أضعاف أضعافهم، بأقرب مما يظن أهل الإنقاذ ومرجفي مدينتها الفاسقة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق