الجمعة، 5 أبريل 2013

حتى عن الموت أكتب - مقابرنا

حتى في الموت أكتب


بقلم : بدرالدين حسن علي



في السودان وتحديدا في محافظة الخرطوم " أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري " هناك مجموعة من المقابر الشهيرة مثل : البكري – أحمد شرفي – فاروق – حمد النيل – حمد النتيفة – الصحافة ، طبعا إلى جانب مقابر أخرى مثل السلمة – الجريف غرب – الرميلة ، ومقابر المحافظات الأخرى ، إنزعج صديقي إنزعاجا شديدا عندما سألته ذات مرة عن أحوال المقابرفي السودان ، إذ قال لي : شنو يا بدرالدين خلاص إنت مودع ؟ ضحكت وقلت له : أبدا لأنه عندنا هنا في تورنتو مقبرة شهيرة جدا في منطقة تسمى " بيكرينج " وارينا فيها الثرى أسماء مرموقة لا تختلف كثيرا عن أولئك الرائعين الذين جمعتهم مقابر فاروق ، ولكني أسألك لأن ذكرياتي عن مقابر البكري مثلا مؤلمة ومريرة نظرا لفقرها وعدم الإهتمام بها ، قال لي " أنت قلتها تلك ذكريات " ألم تسمع الفنان عثمان الشفيع يغني الذكريات .

وأقول ذكريات أليمة ومرة لأني شاهدت معظم المقابر أعلاه ، يجمعها الإهمال الشديد ، وكان آباؤنا وأجدادنا وحتى أشقاؤنا الكبار عندما يريدون تخويفنا ومعاقبتنا يطلبو ن منا أن نقطع مقابر البكري من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق ، وأذكر أن ذلك كان أشد أنواع العقاب ، وكان إذا قابلنا " صرصور " نرتعد ونخاف منه ، وأظن بسبب هذا الإهمال للمقابر في الكثير من البلدان العربية تحولت إلى أوكار للجريمة وبيع المخدرات والدعارة ، وفي معظم زياراتي لهذه الدول كنت حريصا على زيارة المقابر ، لأني كنت على قناعة أنها الوجه الصادق للدولة ، إلى أن حط بي الرحال في كندا ، وشاءت الظروف أن تقودني رجلاي إلى الكثير من مقابر كندا ، فشاهدت في مقابر المسيحيين العجب ، أشجار وورود وأزاهر ومياه تجري من تحتها الأنهار ، يعني بصراحة مقابر تتمنى أن تجد فيها سكنا ، طبعا هذا هو التكريم الحقيقي للموتى ، لأن إكرام الموتى حسب فهمي المتواضع يتم في شقين – خدمي ويتمثل في نظافة المقابر وإنارتها وتسويرها وتشجيرها وتزهيرها وشق الطرق فيها وتوصيل المياه إليها ..إلخ ، والشق الثاني حسب فهمنا للإسلام فيتمثل في تجهيز الميت من حيث الغسل والتكفين .

وعلى سبيل المثال وأثناء تواجدي في الكويت زرت مقبرة على الحدود الإيرانية العراقية ، فوجدت أن الإيرانيين صراحة أحسنوا لموتاهم ، فالمقبرة تكسوها الأشجار الظليلة والزهور ، وكل قبر مكتوب عليه تاريخ الوفاة بطريقة جميلة جدا وأهالي المتوفين يجلسون أمام القبور باحترام شديد لدرجة أن سائقي " رحيم " قال لي الواحد يتمنى الموت والدفن في هذه المقبرة !

لن أحدثكم عن المقابر الكندية التي ساقتني قدماي إليها خاصة للمسيحيين وآخرها المقبرة التي تم فيها دفن والدة الشقيق العزيز نادر إبراهيم " حلة " ، السائق قال لي بعد إنتهاء الدفن : يلا يا بدرالدين ، قلت له ما أنا براجع ، قال لي ولماذا ؟ قلت له : لأنو ده أحب مكان وقبل أن أكمل أدار عجلة السيارة وتحرك فأعفاني من تكملة الأغنية !



في يوم من أيام الهدوء النادرة في تورنتو جالت بخاطري عقد مقارنة بين مقابرنا ومقابر كندا وتحديدا مقابر البكري وأحمد شرفي ومقابر بيكيرينج ، ففي هذه الأخيرة أحس أن الميت حي أما في مقابر البكري وأحمد شرفي أحس أن الميت رغم مكانته " فطيس " ، وتخيلت أني أحد أموات مقابر البكري فحلمت فشاهدت أحدهم يتبول في المفبرة فانتهى الحلم بالموت ثانية .



المقابر عندنا لا تجد الاحترام والتقدير والتقديس، انظروا إلى مقابر المسيحيين في أية منطقة من المناطق لا أظن إن أحداً سوف يتجرأ لممارسة أي نوع من أنواع الممارسات السيئة بداخلها أو خارج أسوارها، الإنسان عندهم حي وميت يجد الاحترام والتقدير والزيارة، أما المسلمون، الإنسان حي وميت لا يجد التقدير والاحترام.

المقابر بها معظم الأهل من الأسرة المتوفين، الأب والأم، والأخ، والأخت، والعم، والخال، والصديق، لذلك ينبغي أن تجد هذه المقابر الاحترام والتقدير.



قال لي صديقي : إن عدد من طالبات الجامعة الإسلامية عندما يريدن الخروج من الجامعة أثناء المساء يصعب عليهن قطع المقابر إلى الجهة الأخرى (شارع الوادي) والمقابر مظلمة خوفاً من تربص أصحاب النفوس المريضة ، فتخيلوا بين مقابر تحس فيها بالأمان ومقابر تحس فيها أنك مفقود مفقود .



ليتني كنت شاعرا

ليتني كنت شاعرا : مشاغلة لشعرائنا الأفاضل


بقلم : بدرالدين حسن علي

بين ظهرانينا شعراء أمثال : حيدر أبو القاسم ، حسين شنقراي ، عادل عوض الله ، ابراهيم سليمان " أبو ناجي" ، عبد المنعم سيد احمد ، عبد العظيم ابراهيم " جوجوي " والحارث الحاج ، ومجموع الشعراء : محمد الكاشف ، ياسر نجم و بقية العقد الفريد ، ومؤخرا بدأت علامات الشعر الحلمنتيشي في شاعر " السينيرس " محمد عبد الوهاب " أبو البنات " كأنما نحن في مجادعة بين هذا الشعر وذاك ، البعض يتضايق ويسخر من الشعر الحلمنتيشي ويصفه بأنه شعر هابط وسهل ، أنا شخصيا بدأت شاعرا حلمنتيشيا وأصدقائي زجروني ومنعوني وطلبوا مني التفرغ للمسرح والسينما ، لم أكابر واستمعت لنصيحتهم ، وفي الأسبوع الماضي هاتفت ابن خالي عبد الله عثمان بابكر المقيم في السودان وتطرق الحديث عن الشعر الحلمنتيشي ، فقال لي ما زلت أتذكر قصيدتك التي تقول في مقدمتها :

كسرت ا لقلم

كسرت المحبرة

شرائحها ملأت غرفتي

ماذا أكتب ؟

وكيف أكتب ؟

سأكتب بالشرائح الزجاجية

سأكتب تراجيديا يونانية

هنا في هذا المكان والزمان السافل سأكتب عن ...

والبقية بالدارجي أسخر فيها من آلهة الإغريق خاصة إله الخير وإله الشر ، وأتساءل : هل للشر إله ؟

الشعر الحلمنتيشي شعر موزون يجمع بين العامية والفصحى ، إنتشر في العصر المملوكي والذي أطلق عليه الباحثون عصر الإنحطاط الأدبي واللغوي ، وهو نوع من الشعر الفكاهي برع فيه الشاعر الكبير بيرم التونسي وهذا سبب حبي لبيرم ، ويعتمد الشعر الحلمنتيشي على السخرية والفكاهة على طريقة عبد الحليم حافظ في أغنيته الشهيرة في فيلم " ليالي الحب " مع عبد السلام النابلسي " وحقك إنت المنى والطلب .. الله يجازي اللي كان السبب " ، كما أحب شعر عمرو قطامش :

مرت بجواري حوريه

تتهادى فأسأت النية

مشاغلة لشعرائنا الأفاضل



الشعر هذا الذي فى القلب أودعه





من أودع السر بين الكاف والنون



هكذا وفى بيت واحد وبكل سهولة وجمال يمنحنا الشاعر المبدع يس الفيل هذا المعنى الرائع ويوضح لنا تلك المكانة العالية والغالية والهامة للشعر، فهو سر من أسرار الله يودعه فى قلب من يشاء ، ولذا يؤكد نجيب سرور هذه المعنى فى نهاية إحدى رباعياته بقوله:



إنهم يخشوننا فالشعر سحر



هكذا يؤكد سرور أن اختيار الله للشاعر كاختياره للنبي المرسل فالشاعر له رسالة حباه الله عن غيره بها ويؤكد سرور إيمانه بحديث الرسول الكريم ( إن من البيان لسحرا وان من الشعر لحكمة ) ، ولذا مدعى الشعر كمدعى النبوة فيدعى ما لا يملك .

ويأتي نزار ليؤكد هذه الرسالة وأن الشاعر لابد وان يكون مقاتلا مدافعا عن أمته وعقيدته ومحاربا للفساد والطغيان يقول:



الشعـر لـيس حمامات نطـيرهـا





نحـو السماء ولا نايـا وريح صبا





لكنـه غضـب طالـت أظافــره





ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا



هذا ما أراده نزار للشاعر والشعر بعد صدمة النكسة ، وان كان لسمير فراج رؤية أخرى حين قال فى شطر بيت من أبدع ما قيل فى الشعر العربي :



فمن القصائد حمزة وأبو لهب



أرأيتم هذا التصنيف البديع الذي غلفه التشبيه بكل ما يملك الاسمان من دلالات وتاريخ

ونأتي لمفهوم الشعر ومعناه الذي تطور بتطور الزمن واتساع المدارك وتنوع واختلاف الأحداث ، فقديما كان الشعر هو الكلام الموزون المقفى ، وهذا التعريف فى عصرنا الحالي به نقص وظلم كبير للشعرقلل من أثره ، وللعجب كان هذا التعريف سائدا فى أزمنة ازدهار الشعر لأن الشعراء انشغلوا بنسجه أكثر من انشغالهم بنسيجه ، ولكن هناك من عرفه بأنه ما أشعرك وولد فيك احساسات جميله وانفعالات وجدانية متدفقة ، وأميل إلى ما ذكره الناقد الكبير محمد مندور- رحمه الله - فى كتابه الصغير حجما والكبير قدرا " فن الشعر " حين قال:(هو وجدانية المضمون وجمالية التصوير وموسيقية التعبير ) نعم ولذا عرفت الصورة الشعرية بأنها ( تحريك الظل واستنطاق الصامت )

ولا أريد أن اشتبك مع الحداثيين النثريين ، فمن أيقن أن الشعر موسيقى لا يجهد نفسه مع من خالف ذلك وإنما يقول قولة محمد القدوسى ( من أراد أن يخرج عن قانون فليخرج ولكن بقانون ) كما فعل أصحاب مدرسة شعر التفعيلة ( الشعر الحر) فاستبدلوا البيت بالشطر وبالسطر لكن لم يخرج عن الوزن .

سؤال بريء

لماذا لا نقيم المزيد من الأمسيات الشعرية لشعرائنا ؟

سألني أحدهم : ما هي أجمل أبيات شعر قرأتها ؟

قلت له " إن تكن أنت بعيد عن يدي

فخيال الشعر يدرك النائي القصيا

إن تكن أنت بعيد في الثرى

فخيال الشعر يرتاد الثريا

إن تكن أنت جميل

فأنا شاعر يستنطق الصخر العصيا



اليوم العالمي للمسرح






اليوم العالمي للمسرح

بقلم : بدرالدين حسن علي

غداالسابع و العشرين من شهر مارس اليوم العالمي للمسرح ،حيث يحتفل المسرحيون في جميع دول العالم بيوم يعبر عن الأهداف النبيلة والتجارب الإبداعية والقيم الجمالية والمعاني السامية للوجود المسرحي وتعبيره عن حياة الناس و مصائرهم وكل نتاج مسرحي وما اعترضه من عقبات وما نجم عنه من صلات بجمهور المسرح .

إنها ذكرى عزيزة لكل فنان مسرحي ، فالمسرح عمره هو عمر البشرية ، وهو كما يقولون أبو الفنون ، فالإنسان ومنذ قديم الزمان عرف المسرح ، ولكن ليس بالضرورة أن نعرفه كما عرفه اليونانيون القدماء ، وكما يقول د. يوسف إدريس : طالما هناك شعب فمن خصائص وجوده أن يأكل ويشرب ويضحك ويرقص وأن يتمسرح أيضا ، وبذا تكون كل الشعوب عرفت المسرح ، فهناك المسرح المصري القديم ، ومسرح الكابوكي الياباني ، والمسرح الصيني ، والمسرح الإفريقي القديم ، ومسرح خيال الظل والأراجوز والعرائس .

هناك المسرح الكلاسيكي والرومانسي والواقعي والتعبيري والرمزي والسياسي والملحمي ، وهناك أيضا مسرح العبث والمسرح الفقير ...إلخ

وكثير جدا من كتاب المسرح وكافة العاملين فيه دفعوا ضريبة الدفاع عن حق الإنسان كي يعيش بحرية ، دخلوا السجون والمعتقلات وعاشوا حياة المنفي ومورست ضدهم كل أشكال التعذيب ولكنهم صمدوا ووقفوا ضد الظلم والقهر ، ومن أجل حياة إنسانية معافاة .



بدأت فكرة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح في هلسنكي وتحققت في فيينا خلال المؤتمر العالمي التاسع للمعهد الدولي للمسرح. ويذكر أن منظمة اليونسكو ونخبة من شخصيات المسرح أسست ، المعهد الدولي للمسرح عام 1948، وهو من أهم المنظمات الدولية غير الحكومية في مجال الإنجاز الفني، كما أنه يتمتع بعلاقات رسمية مع منظمة اليونسكو، ويسعى المعهد للارتقاء بالتبادل العالمي للمعرفة والتطبيق العملي في مجال تقديم الفنون وتشجيع الإبداع وزيادة التعاون بين العاملين في مجال المسرح لخلق رأي عام مدرك لضرورة أخذ الإبداع الفني بعين الاعتبار في مجال التطوير وتعميق التفاهم المشترك للمساهمة في تدعيم السلام والصداقة بين الشعوب والدفاع عن أهداف ومُثُل المنظمة.

فقد ولد اليوم العالمي للمسرح إثر مقترح قدمه رئيس المعهد الفلندى للمسرح الناقد والشاعر والمخرج أرفي كيفيما إلى منظمة اليونسكو في يونيو عام 1961. وجرى الاحتفال الأول في السابع والعشرين من مارس عام 1962 في باريس تزامناً مع افتتاح مسرح الأمم. وتم الاتفاق على تقليد سنوي يتمثل بأن تكتب إحدى الشخصيات المسرحية البارزة في العالم، بتكليف من المعهد الدولي للمسرح، رسالةً دوليةً تترجم إلى أكثر من عشرين لغة، وتعمم إلى جميع مسارح العالم، حيث تقرأ خلال الاحتفالات المقامة في هذه المناسبة، وتنشر في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وتقرأ أمام الجمهور قبل بدء العروض المسرحية في جميع أنحاء العالم وتنشر في آلاف الصحف والمجلات وتذاع في محطات الإرسال الإذاعي والتلفزيوني ووكالات الأنباء في جميع أنحاء العالم.

وكان الكاتب الفرنسي جان كوكتو أول شخصية اختيرت لهذا الغرض في احتفال العام الأول بباريس. وتوالى على كتابتها، منذ ذلك العام شخصيات مسرحية من مختلف دول العالم، منها: أرثر ميلر، لورنس أوليفيه، بيتر بروك، بابلو نيرودا، موريس بيجارت، يوجين يونسكو، أدوارد ألبي، ميشيل ترمبلي، جان لوي بارو، فاتسلاف هافل، سعد الله ونوس، فيديس فنبوجاتير، فتحية العسال، أريان منوشكين، و فيكتور هوجو وعدد كبير من كتاب المسرح .





الشعر والثورة - الحلقة الرابعة


الشعر والثورة " الجزء الرابع "

بقلم : بدرالدين حسن علي



غير انني في قراءاتي الواسعة في الشعر العربي المعاصر فتنت علي وجه الخصوص بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، الذي قرأته، وحفظت كل قصائده تقريبا وأنا في مطلع الشباب.

بعد أن حصلت علي نسخة من ديوانه الكامل "إرادة الحياة" والتي نشر فيها قصيدته الشهيرة والتي أصبح البيت الأول فيها ـ كما ذكرنا ـ الشعار المعتمد للثورات العربية يقول الشابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"، و"لابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر"، ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر" الي آخر هذه القصيدة الفاتنة.

وقد يدعونا السؤال الذي طرحناه في صدر المقال عن العلاقة بين الشعر والثورة أن نتساءل عن الدور السياسي الذي لعبه الشعر العربي المعاصر في النقد السياسي، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مما كان سببا في رفع الوعي الاجتماعي للجماهير وفي بلورة الحس النقدي عندها واعدادها نفسيا للسخط الشديد علي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاسدة، مما أدي في الواقع الي ازكاء حالة الاختمار الثوري.

وهذا الاختمار الثوري أدي أحيانا الي مجرد انقلابات عسكرية لتغيير الأوضاع، أو الي ثورات متكاملة.

وأنا أكتب هذه الفقرة قفزت الي ذهني قصيدة شهيرة كتبها الشاعر والكاتب المصري الشهير عبدالرحمن الشرقاوي وعنوانها "من أب مصري الي الرئيس ترومان"، وكانت باستخدامها شعر التفعيلة انقلابا علي الشعر العمودي من ناحية، وممارسة للنقد السياسي للإمبريالية الأمريكية بصورة مبدعة حقا، مما جعلها تؤثر في وجدان ملايين القراء.

غير أنه للأمانة التاريخية هناك من شعراء الإحياء وأبرزهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وبعد ذلك الشاعر العراقي الكبير الجواهري، قصائد شهيرة أزكت روح الثورة في نفوس الجماهير.

ولو عبرنا الأربعينيات وجئنا الي الخمسينيات والتي شهدت في الواقع انقلابات عسكرية تحول بعضها الي ثورة وأبرزها انقلاب يوليو 1952 الذي قام به الضباط الأحرار، لوجدنا أن الشعر لعب دورا في مجال تسجيل الاعتراض علي الأزمات العنيفة التي واجهت ثورة يوليو، وأبرزها مايعرف بأزمة مارس 1954، والتي وقع فيها الصراع العنيف بين اللواء محمد نجيب وجمال عبدالناصر وزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقد أدي هذا الصراع في جولته الأولي الي عزل محمد نجيب من كل سلطاته وكانت له شعبية جماهيرية طاغية، مما جعل الجماهير ترفض قرار مجلس قيادة الثورة وتضطر الي اعادته للسلطة مرة أخري لحين تم عزله نهائيا بعد ذلك وتحديد محل إقامته وعاد جمال عبدالناصر للسلطة مرة أخري والتي تحولت من بعد الي سلطة مطلقة.



الشعر والثورة - الحلقة الثالثة

الشعر والثورة " الحلقة الثالثة "


بقلم : بدرالدين حسن علي

من الظواهر المحيرة والمربكة في نفس الوقت أن أعمار شعراء السودان قصيرة ، ومن الصعب أن يعمر الشاعر ، - طبعا الموت بيد الله – ولوتحققت دراسة جادة ونزيهة لتوصلت إلى نتائج هامة تفيدنا في التعرف على الأسباب الحقيقية باعتبار أن الشاعر أكثر الناس حساسية تجاه قضايا الوطن ، نعم الموت المبكر يكاد يصيب معظم شعراء ومثقفي السودان بدأَ من التجاني يوسف بشير الذي مات عن عمر لا يزيد عن 25 سنة " 1912 – 1948 " ، الأمين علي مدني لم يزد عمره عن 26 عاما " 1900 – 1926 " ، وكذلك معاوية محمد نور عاش 33 عاما فقط " 1909 – 1942 " ، وتوفى الشاعر إدريس جماع في الثامنة والخمسين من العمر ، وتوفى الشاعر المرهف محمد احمد المحجوب في الثامنى والستين من العمر " 1908 – 1976 " ، علي عبد القيوم " 1943 – 1998 " مات بداء السرطان علما أنني تعرفت عليه لسنين طويلة وما كان يبدو عليه إطلاقا أنه مريض بالسرطان ولم أعرف عنه شيئا من ذلك حتى سنة الغزو العراقي للكويت عام 1990 ، ويبدو لي أن مشاكله مع المرض بدأت بعد ذلك ويبدو أيضا أنها تسارعت بشكل غريب ، وقد قرأت مقالا كتبه فتحي فضل يحكي فيه تفاصيل رحيله المؤلم ، صديقه عمر الطيب الدوش ومن بعده محمد الحسن سالم حميد وقبل ذلك عبد العزيز العميري وغيره من الشعراء المؤثرين في حركة الشعر السوداني .

أما عقد التسعينات في السودان فقد كان عقد شؤم كما قال صديقي صلاح يوسف ، فقد رحل فيه أجمل المبدعين أمثال عثمان خالد ، علي المك ، صلاح أحمد إبراهيم ، خالد الكد ، مصطفى سيداحمد ، العاقب محمد الحسن وغيرهم .

محمد الحسن سالم حميد نموذجا

66 عاما هي عدد سنوات عمره منذ ميلاده وحتى وفاته – 1956 – 2012 ، ولكنه ترك لنا قصائد لا يمكن نسينها ، وجميعها كشفت عن قامة إبداعية نادرة ، وانتهت حياته في حادثة سيارة كما إنتهت حياة الراحل المقيم خالد الكد بحادثة سيارة في بلاد الغربة ، رحيل محمد الحسن سالم حميد ومن خلال موكب التشييع أوضح لنا كم أن الشعب السوداني عظيم ورائع ولا ينسى قادته الشعرية والفكرية :

فتاح يا عليم

رزاق يا كريم

صلى على عجل

همهم همهمة

حصن للعباد

وهوزر سبحتو

ودنقر للتراب

حيكومات تجي

و حيكومات تغور

تحكم بالحجي

بالدجل الكجور





الشعر والثورة - الحلقة الثانية




الشعر والثورة "2"

بقلم : بدرالدين حسن علي



بتساءل السيد ياسين : هل هناك علاقة بين الشعر والثورة؟

تبدو أهمية السؤال لأن طابع الشعر الأساسي هو التدفق الابداعي الرقيق، الذي يعبر عن حالات متعددة كالبوح الوجداني أو التأمل الفلسفي أو التصوير السيكولجي لحالات شعورية متعددة ، وهذا يمكن ملاحظته في جميع أشعار الشعراء الكبار في، حين أن الثورة هي أساسا فعل انساني عنيف، وقد يتخذ العنف أشكالا دموية صارخة للخلاص من رموز النظام القديم، كما يسجل التاريخ بالنسبة لثورات شهيرة كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية.

غير أن أهم فارق بين الشعر والثورة أن الشعر فعل فردي في حين أن الثورة لابد أن تكون نتاج فعل جماعي، وهذا الفعل الجماعي قد تقوم به طليعة ثورية قليلة العدد ومع ذلك تنجح في حشد الجماهير وراءها، في حين ان الشعر فعل فردي أساسا ، والفعل الجماعي تصعب احيانا السيطرة عليه نتيجة جموح السلوك الجمعي للجماهير، في حين أن الفعل الفردي تسهل السيطرة عليه، مهما كانت الحالة النفسية للشاعر حتي لو انتابته صورة من الغضب العنيف، أو السخط الشديد علي الأوضاع الاجتماعية أو الثقافية السائدة، وبغض النظر عن حالة السوء أو الانحراف النفسي للشاعر.

غير ان الشعر مع ذلك بطابعه الفردي قد يقترب من الثورة لو كانت سلمية ولم تلجأ اصلا للعنف.

والنموذج البارز لهذا التلاقي النادر بين الرقة والقوة نجده في ثورة 21 أكتوبر 1964 التي أطاحت بنظام الفريق إبراهيم وكررها الشعب السوداني مرة أخري في إنتفاطة مارس /أبريل 1985 ، ويعني ذلك أن السودانيين فعلوها قبل نحو أربعين عاما .

الثورتان اللتان حدثتا في السودان لم تجدا الإهتمام والشعر الذي صاحب الثورتين لم يجد العناية ، وهذا ظلم كبير للثورتين وللشعر الذي تفجر معهما ، أن الثورة احتجاج جذري ضد الأوضاع المتردية في البلاد ولكن بدون استخدام العنف ، و علي العكس فقد إستخدم نظام عبود ونميري العنف الإجرامي ضد الثوار باطلاق الرصاص الحي عليهم، مما أوقع الكثير من الشهداء الأبرار والجرحي، ودائما ما تتصرف الأجهزة الأمنية بشكل همجي ضد جموع الشعب الثائرة ، وخاصة الشعراء والمبدعين ، لكن لا الشعر يموت ولا الشعراء .

وأهم من ذلك كله كما يقول السيد ياسين ويقوله كثيرون : أن الشعار الأساسي للثورة ـ كما كان الحال بالنسبة للثورة التونسية ـ تمثل في أشهر بيت شعري استخدمته الجماهير الغاضبة والثائرة في التاريخ العربي المعاصر، وهو افتتاحية القصيدة الشهيرة للشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي وعنوانها "إرادة الحياة".

"إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"!

يقول السيد ياسين " أردت من هذه المقدمة الوجيزة عن العلاقة بين الشعر والثورة، أن أمهد للحديث عن علاقتي بالأدب عموما وبالشعر خصوصا، أنا انتمي الي جيل الأربعينيات، حيث تكون وعي جيلي عبر القراءة المنهجية للفكر السياسي من ناحية، وللروائع الأدبية من ناحية أخري.

انجذبنا علي وجه الخصوص الي الأدب الروسي وخصوصا الأعمال الروائية الفذة لدوستويفسكي والقصص القصيرة الفائقة الجمال لتشيكوف، بالاضافة الي عشرات المبدعين والنقاد والروس، واهتممنا أيضا بقراءة الأدب الفرنسي المترجم في روائعه الشهيرة وخصوصا ابداعات بلزاك ومارسيل بروست، وعرجنا أحيانا علي الأدب الروائي الأمريكي، وقرأنا بعمق مارك توين وتأثرنا بالشعراء الطليعيين المجددين.

وتذوقنا روائع الشعر الإنجليزي ابتداء من شكسبير وشيللي واليزابث برواننج وروبرت برواننج الي شاعر الانجليزية الأشهر اليوت.

ويضيف قائلا " غير انني في قراءاتي الواسعة في الشعر العربي المعاصر فتنت علي وجه الخصوص بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، الذي قرأته وحفظت كل قصائده تقريبا وأنا في مطلع الشباب.

بعد أن حصلت علي نسخة من ديوانه الكامل "إرادة الحياة" والذي نشر فيه قصيدته الشهيرة والتي أصبح البيت الأول فيها ـ كما ذكرنا ـ الشعار المعتمد للثورات العربية "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"، و"لابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر"، ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر" الي آخر هذه القصيدة الفاتنة.



الشعر والثورة - الحلقة الأولى

الشعر والثورة”الجزء الأول "


بقلم : بدرالدين حسن علي

كثيرا ما أسأل نفسي أسئلة حادة عن الدين والجغرافيا والطبيعة والتاريخ ، وأسئلة أخري عن نابليون بونابرت وأرسطو وأفلاطون والكثير من الأنبياء ، وعندما يصيبني الضيق الشديد من قلة المعرفة وأدرك كم أنا جاهل أجد نفسي متوسدا كتابا ، النبي الأمي محمد "صلعم " أول آية نزلت عليه كانت " إقرأ " .

قبل عدة أسابيع أرسل لي صديقي إبراهيم خير رسالة بريدية طويلة تضمنت ما يسمى المكتبة الرقمية ، يا سبحان الله بإمكانك أن تستلقي على الفراش وتستمع لشخص يقرأ بالإنابة عنك كتابا كاملا ، وبما أني أعاني منذ فترة من مرض " عدم النوم " فصرخت" وجدتها !" وجربت المكتبة الرقمية ، بدت لي فكرة رائعة لكن سرعان ما مججتها وكرهتها ولعنت سنسفيل أبو المكتبة الرقمية .

عندما تحاصرني مثل هذه الحالة أتجه نحو الشعر ، فأنا دائما أتمنى أن أكون شاعرا ولكن هيهات ، الشاعر الراحل المقيم علي عبد القيوم قرأت عليه مرة إحدى قصائدي التي كنت أعتز بها فلما إنتهيت من " الخطبة " لم أر أي ردة فعل على وجهه فسألته : أها ما رأيك ؟ قال لي : " شوف يا بدر الدين إنت تسيب حكاية الشعر دي خالص شوف مسرحك وسينمتك أحسن ليك " مددت يدي وتناولت كتابا بعنوان " الشعر والثورة" لمؤلفه الكاتب الكبير السيد ياسين ، الأمر إستغرق نحو ساعتين وأنا أقرأ ، وقبل أن أكمل الكتاب نمت " نومة أهل الكهف " وعندما صحوت في اليوم التالي تداعى ذلك الحلم الجميل .

مهرجان الشفاء الثقافي


مهرجان الشفاء الثقافي

فكر قليلا فالسينما السودانية تتحدث

بقلم : بدرالدين حسن علي









أتابع باهتمام شديد أفلام وأنشطة المخرجة السينمائية تغريد السنهوري ، وخاصة مشروعها الرائد " الشفاء الثقافي " والذي أعتبره مساهمة إيجابية في أزمة السينما السودانية ، وتابعت أيضا مهرجان الشفاء الثقافي الأول الذي أنهى فعالياته قبل أيام في السودان ، حيث قدمت للجمهور ثلاثة عروض لـ "أفلام تسجيلية"، أخرجها شباب تدربوا على صناعة "الفيلم" في حلقات أقامها المهرجان ، ويجيء إهتمامي بالمهرجان نظرا لموضوعه وهو السينما وخاصة السينما السودانية ، وسعدت أيضا بالحوار الذي جرى مع المخرج السينمائي الرائع ابراهيم شداد والذي تحدث فيه بصراحة شديدة عن ضعف السينما السودانية .

مهرجان الشفاء الثقافي أستطيع أن أسميه مهرجان التفكير والتعمق فيما حدث للسودان بعد الإنفصال ، فجميع الأفلام تدق على هذا الوتر الوطني المفجع المؤلم ، لدرجة أن البعض لا يكاد يصدق ما حدث !!!



هدف المهرجان إلى معالجة قضايا "إنسانية واجتماعية" من خلال الفيلم والصورة المتحركة، بما أطلق عليه منظمومة "الشفاء الثقافي"، وتدريب سينمائيين شباب على مهارات صناعة السينما، للقيام بمهمات الشفاء الثقافي.



ورعت المشروع منظمات "مركز نسق، منظمة كونكوردس العالمية" فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، والسفارة البريطانية، ووزارة الثقافة.



تقول مديرة المشروع السينمائية السودانية البريطانية تغريد السنهوري: "الأفلام جسدت فكرة الشفاء الثقافي، التي أخذتها من بريطانيا أثناء محاولاتها معالجة موضوع العنصرية في ثمانينيات القرن الفائت، الفترة التي هاجرت فيها إلى بريطانيا".



وتضيف إنها عايشت مظاهرات السود وعمال المناجم، واحتواء بريطانيا لها ومعالجتها عبر الفن، ما عزز ثقتها كصانعة أفلام وثائقية، بقدرة الفن على تغيير المجتمع نحو الأفضل.



وتعتبر تغريد الفن عنصراً ذا فعالية وأثر أكبر من أثر الاقتصاد والسياسة في صناعة التحولات، موضحة أن الأفلام لا تتعاطى مع القضايا عن طريق الخيال، وإنما عبر النظر بشجاعة وبصدق إلى واقع معين، وطَرْح سؤال "هل يمكننا أن نأتي بالشفاء إلى هنا"..؟ وكيف يمكننا توسيع مفاهيمنا، وتحويلها لنتفهّم هذه القضية أو هذه أو تلك الحالة".

فيلم " موسى "

يقول مخرج "موسى" محمد مرزوق: "هذه أول تجاربي في إخراج فيلم وثائقي، رأيت أناسا وأماكن وقفت عندها، وحين سنحت الفرصة حولتها إلى مادة فيلمية، لم يكن عملاً سهلاً لذا شعرت براحة كبيرة بعد أن أكملت تصوير" موسى".

" موسى " جندي أعيق في حرب الجنوب ، وحين إنفصل الجنوب عن الشمال أعيق " عقليا " كأنه يرفض ضياع رجله اليمنى سدى





تشرد موسى وطلى وجهه بالسخام الأسود، وكأنه في حالة لا وعي يريد إعلان انتمائه لذاك الجزء من الوطن المنفصل، وكأنه يقول للناس "حاربنا سدى".



فيلم " طبول الليل "

ويوضح مخرج "طبول الليل " محمد عبدالعظيم "فوكس"، إنه حاول نقل "الانفصال" من حيزه إلى مكمن الداء في قلب المجتمع السوداني السياسي إلى موقعة الإنساني، من خلال شخصية "جمعة" الذي كان يحلم بفرقة طبول، لكنها -غصباً عنه- انقسمت إلى فرقتين، فتأرجح بين مكان نشأته وحبه، وبين الدولة الجديدة والهوية الجديدة التي اكتسبها، مجسداً حالة الفصام التي وجد سودانيون أنفسهم فيها بسبب الانفصال.

فيلم " الذين سرقوا الشمس "



من جهته يقول المخرج الحائز على برونزية مهرجان الإذاعة والتلفزيونات العربية بتونس "الطيب صديق"، عن فيلم "الذين سرقوا الشمس"، إن الورشة تعد إضافة واسهام في صناعة سينما سودانية.







أما حكاية "مجرد طفل"، ببعدها الإنساني تجسد المعنى العميم لطفل كبر قبل الأوان، ترك طفولته ليعيل أسرة.

السعودية أنتجت فيلمها الأول " وجده " ودخلت هيفاء المنصور عالم السينما العالمية ، وأرغو يفوز بجائزة الأوسكار في غفلة قاتلة ، والسينما السودانية لا تزال تحبو على أربع !!!!



مرحبا أيها الموت الجميل

مرحبا أيها الموت الجميل !


بقلم ::بدرالدين حسن علي



قبل أسبوعين تقريبا بدأ الثلج يتساقط في تورنتو ، ودخل البعض في بياتهم الشتوي حتى إشعار آخر ما عدا حفنة من أصحاب السيارات الفاخرة ، جاء متأخرا هذا العام على غير العادة ، وقبل تساقطه هذا تساقطت كل أوراق الأشجار التي كانت مفرهدة مزهوة بلونها الأخضر تعطي للحياة معنى ولتحقيق الأماني أمل ، الآن بدأ اللون الأبيض يحل محل الأخضر .

عاندت نفسي وجلست في البرد القارس أعود بالذاكرة إلى سنين خلت ، تعمدت أن تكون العودة بلا ترتيب زمني ، وإنما قفزات فوق العقود والحقب مشحونا بذاكرة متعبة من الجلد والقهر والمنفى ، مر شريط سينمائي طويل يعرض صوراّ باهتة لوجوه دخلت التاريخ ولم تخرج ، ووجوه خرجت من التاريخ قبل أن تدخل ، ووجوه منعت من الدخول وأخرى منعت من الخروج وبعضها تراوح بين الدخول والخروج ونشبت معركة بين كل الوجوه واجتاحتني عاصفة من الهوس ورغبة مكتومة في الإنتحار ورغبة اخرى في المقاومة، الموقف كان صعباّ .

بدا لي أن الزمن في السودان يحفل بالموت وتقل فيه الحياة وأننا مجموعة كبيرة من المنافقين والكذابين أحياء ولكننا موتى ونعيش على صدقات أحياء ولكنهم موتى ، وليس أمامنا سوى أن نرفع شعارات هي في النهاية جلد الذات ، نحن بصراحة نجيد صناعة الموت ولنا سجل طويل غير مسبوق في موت المبدعين المبكر .... من التجاني يوسف البشير ومعاوية محمد نور والمجذوب ومحمد عمر بشير وصلاح أحمد إبراهيم وخالد الكد وليلى المغربي وخوجلي عثمان ومحمد رضا حسين وأحمد عاطف وأحمد قباني وجيلي عبدالرحمن وأحمد الجابري ورمضان زايد وعبد العظيم حركة وأحمد المصطفى وعبد العزيز العميري ومصطفى سيداحمد وحورية حاكم وعلي عبدالقيوم وعمر الدوش ونادر خضر وزيدان إبراهيم والأمين عبد الغفار ومحمد وردي ومحمد سالم حميد ومحمد إبراهيم نقد و..و.. قائمة طويلة من الموت ليس بسبب الكبر والشيخوخة والزهايمر

وإنما بسبب القهر والحرقة على البلد !!!!!!!

ويا لحظ السودان يموت الشعراء والأدباء والفنانون وكبار المثقفين مبكراّ ويعمر السياسيون يرأسون أحزابنا ويحكمون بلادنا عقود وعقود وما يزالوا يحلمون ليس بحسن الخاتمة وإنما بصفقة مال تزيدهم وجاهة ،وآخرون يسقطون من طائرة وهم أحياء ، يصابون بمرض السرطان وهم ما زالوا أحياء !!

وها هم مفكرونا وكتابنا وشعراؤنا وطليعة مثقفينا في بلاد الغربة يغسلون الصحون في لندن ، ويكنسون الشوارع في باريس ، ويجمعون القمامة في واشنطون ، وتطحنهم مصانع الأسمنت و البلاستيك في كندا ومن حالفه الحظ يعيش مطعونا في الشرف والكبرياء بدنانير ودراهم النفط .... يا لتعاسة مهيرة والخليل وعبداللطيف وكل الأسماء الخالدة في تاريخ السودان القديم والحديث .

منفيون في كل بقاع العالم ومن خيرة أبناء الوطن الملازم عزاؤهم الوحيد حفظ ماء الوجه وما تبقى من كرامة شخصية فهم على الأقل يعيشون حياة خالية من الخوف مثلي تماماّ ولكنها حياة خير منها الموت ... يا لعجبي !!!!!

اليوم المثقف أو الشاعر أو الكاتب أو المفكر أو المخرج المسرحي أو المخرج السينمائي أو الصحفي يأتي اسمه في ذيل القائمة حتى لو كان عضواّ في حزب المؤتمر الوطني الحاكم ، وكما يقولون وكما تردنا الأنباء فهو إما خائف أو نصف جائع أو منافق ...... وكما قال وكما كتب أكثر من مناضل يحب السودان ويعشقه أن السودان لم يعد فيه من مجال لكي يؤدي المثقف دوره الوظيفي في المجتمع كحامل رؤية أو أداة تجديد وتطوير وتعليم وتثقيف وتغيير ونقد .



المثقف في السودان - وأرجو أن تنتبهوا لهذا - قد يسمح له بأن يشتغل في الطين ولكن - كما قال أحد المفكرين - ليس لكي يصنع تمثالاّ بل لكي يوسخ أصابعه وملابسه ... وقد يسمح له بإخراج فيلم سينمائي فيخرج شيئاّ من قفاه !!!!!

أنظر إلى سياسيينا فأتذكر نهرو ومانديلا ونكروما وديجول ولا أتذكر من قادة وطني إلا من مات مقتولاّ أو شهيدا قبل أن يكمل رسالته ، أنظر إلى وطني بعد 1956 فلا أرى سوى عبود وهو عسكري ونميري وهو عسكري والبشير وهو عسكري ،والميرغني والصادق والترابي فيرجع بصري خاسئا .



أصبحت لا أفكر في العودة إلى الوطن ودائما ما أتساءل أيهما أفضل : السودان أم كندا ؟؟ الآن أنا آمن وآكل وأشرب وأرقص وأضحك وأغني وأتمسرح أيضا ، بينما أبناء وطني لا يحس معظمهم بالأمان ويعاني معظمهم من الجوع والمرض ، لا أحد في هذا المنفى " المقرف " البعيد يرغب في العيش فيه ، لا نرغب يا أهل بلدي أن نقف طوال شتاء أريزونا وتورنتو في محطات البنزين أو نشق ليالي المدن لتوصيل أطباق البيتزا !!!! نريد أن نعود إلى الوطن لتوصيل أطباق الكسرة واللقيمات لكل النساء السودانيات .

تقول المخرجة السينمائية تغريد السنهوري :

عشت بعيداً عن السودان ولكنى لم أنقطع عنه فقد كان معى عبر والدى ووالدتى والأهل الذين ظلوا يرسموا لى الواقع الوردى الجميل عن السودان وحياة الناس هناك و...و...ثم بدأت أستكشف وأعرف عن السودان وأكتشفت أن العالم الوردى الجميل كان مبالغاً فيه وأن هناك حروب ومآسى وآلام وهناك قصص ومشاعر إنسانية أكبر من أن تحكى وفى السودان هناك الكثير مما يجب أن يحكى عنه وبالفعل خضت هذه التجربة فى عام 2004 وخلالها أخرجت فيلم ( كل شئ عن دارفور ) والذى حقق نجاحاً فنياً كبيراً بعدها أخرجت فيلماً وثائقياً لقناة الجزيرة بعنوان (أطفال المايقوما ) ثم فيلم (أم مجهولة ) بعدها قررت أن أحكى قصة الوطن الكبير فى رحلته الى الإنفصال هذا الحدث التاريخى الذى سيغير من شكل وخارطة السودان الحديث.

" الصدفة وحدها هى التى منعتنى من دراسة الإخراج السينمائي ، وقد درست اللغة الإنكليزية وعلم إجتماع ببريطانيا ، ولكن لدى روح الإبداع وأنا مؤمنة تماماً بضرورة صقل الموهبة والعلم ، وفى خططى المستقبلية دراسة الإخراج والدخول الى هذا العالم من باب العلم ، والذى دفعنى الى عالم الإخراج هو أنى ايضا من هذا البلد وأنتمى اليه فما الغريب فى أن أحكى عنه ؟ أنا من هذا النسيج الإنسانى الدى يتفاعل مع الأحداث من حوله ويرويها بالكاميرا والصوت ، فى بعض الأحيان تجد أن هناك حقوقاً تنتزع منك ، وأنت فى بلدك ينتزع منك حق المواطنه وانت تريد أن تحكى عن هذا ، أنا عشت ببريطانيا ولدى فيها حق المواطنه فهو بلدى الذى عشت فيه طفولتى واحبه تماما كما أحب السودان ، ولكنى كنت أحس بأنى أقلية وعلى الرغم من أن بريطانيا تحترم حقوق الأقلية وهناك قانون يعطى الأقلية حقوقهم ولكن بريطانيا هى وطنى الثانى ومن هنا بدأ إحساسى بمعنى أن تفقد وطنا وبدأ يتشكل فى داخلى إحساس الفنان الدى يتأثر بالأحداث من حوله ويجد رغبة قوية فى روايتها وتصويرها."



من البكري وأحمد شرفي

من البكري وأحمد شرفي إلى بيكرينج


بقلم : بدرالدين حسن علي



في السودان وتحديدا في محافظة الخرطوم " أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري " هناك مجموعة من المقابر الشهيرة مثل : البكري – أحمد شرفي – فاروق –الصبابي - حمد النيل – حمد النتيفة – الصحافة ، طبعا إلى جانب مقابر أخرى مثل السلمة – الجريف غرب – الرميلة ، ومقابر المحافظات الأخرى ، إنزعج صديقي إنزعاجا شديدا عندما سألته ذات مرة عن أحوال المقابرفي السودان ، إذ قال لي : شنو يا بدرالدين خلاص إنت مودع ؟ ضحكت وقلت له : أبدا لأنه عندنا هنا في تورنتو مقبرة شهيرة جدا في منطقة تسمى " بيكرينج " وارينا فيها الثرى أسماء مرموقة لا تختلف كثيرا عن أولئك الرائعين الذين جمعتهم مقابر فاروق ، ولكني أسألك لأن ذكرياتي عن مقابر البكري مثلا مؤلمة ومريرة نظرا لفقرها وعدم الإهتمام بها ، قال لي " أنت قلتها تلك ذكريات " ألم تسمع الفنان عثمان الشفيع يغني الذكريات .

وأقول ذكريات أليمة ومرة لأني شاهدت معظم المقابر أعلاه يجمعها الإهمال الشديد ، وكان آباؤنا وأجدادنا وحتى أشقاؤنا الكبار عندما يريدون تخويفنا ومعاقبتنا يطلبو ن منا أن نقطع مقابر البكري من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق ، وأذكر أن ذلك كان أشد أنواع العقاب ، وكان إذا قابلنا " صرصور " نرتعد ونخاف منه ، وأظن بسبب هذا الإهمال للمقابر في الكثير من البلدان العربية تحولت إلى أوكار للجريمة وبيع المخدرات والدعارة ، وفي معظم زياراتي لهذه الدول كنت حريصا على زيارة المقابر ، لأني كنت على قناعة أنها الوجه الصادق للدولة ، إلى أن حط بي الرحال في كندا ، وشاءت الظروف أن تقودني قدماي إلى الكثير من مقابر كندا ، فشاهدت في مقابر المسيحيين العجب ، أشجار وورود وأزاهر ومياه تجري من تحتها الأنهار ، يعني بصراحة مقابر تتمنى أن تجد فيها سكنا ، طبعا هذا هو التكريم الحقيقي للموتى ، لأن إكرام الموتى حسب فهمي المتواضع يتم في شقين – خدمي ويتمثل في نظافة المقابر وإنارتها وتسويرها وتشجيرها وتزهيرها وشق الطرق فيها وتوصيل المياه إليها ..إلخ ، والشق الثاني حسب فهمنا للإسلام فيتمثل في تجهيز الميت من حيث الغسل والتكفين .

وعلى سبيل المثال وأثناء تواجدي في الكويت زرت مقبرة على الحدود الإيرانية العراقية ،وبالطبع أخفينا هذا الأمر عن أقرب الأقربين فوجدت أن الإيرانيين صراحة أحسنوا لموتاهم ، فالمقبرة تكسوها الأشجار الظليلة والزهور ، وكل قبر مكتوب عليه تاريخ الوفاة بطريقة جميلة جدا وأهالي المتوفين يجلسون أمام القبور باحترام شديد لدرجة أن سائقي " رحيم الإيراني " قال لي : الواحد يتمنى الموت والدفن في هذه المقبرة !

لن أحدثكم عن المقابر الكندية التي ساقتني قدماي إليها خاصة للمسيحيين وآخرها المقبرة التي تم فيها دفن والدة الشقيق العزيز نادر إبراهيم " حلة " ، السائق قال لي بعد إنتهاء الدفن : يلا يا بدرالدين ، قلت له ما

راجع ، قال لي ولماذا ؟ قلت له : لأنو ده أحب مكان وقبل أن أكمل أدار عجلة السيارة وتحرك فأعفاني من تكملة الأغنية !



في يوم من أيام الهدوء النادرة في تورنتو جالت بخاطري عقد مقارنة بين مقابرنا ومقابر كندا وتحديدا مقابر البكري وأحمد شرفي ومقابر بيكيرينج ، ففي هذه الأخيرة أحس أن الميت حي أما في مقابر البكري وأحمد شرفي أحس أن الميت رغم مكانته " فطيس " ، وتخيلت في اليقظة أني أحد أموات مقابر البكري فشاهدت أحدهم يتبول في المقبرة فانتهى خيال اليقظة بالموت ثانية .



المقابر عندنا لا تجد الاحترام والتقدير والتقديس، انظروا إلى مقابر المسيحيين في أية منطقة من المناطق، لا أظن إن أحداً سوف يتجرأ لممارسة أي نوع من أنواع الممارسات السيئة بداخلها أو خارج أسوارها، الإنسان عندهم حي وميت يجد الاحترام والتقدير والزيارة، أما مقابر المسلمين الإنسان حي وميت لا يجد التقدير والاحترام.

المقابر بها معظم الأهل المتوفين من الأسرة ، الأب والأم، والأخ، والأخت، والعم، والخال، والصديق، لذلك ينبغي أن تجد هذه المقابر الاحترام والتقدير.



قال لي صديقي : إن عددا من طالبات الجامعة الإسلامية عندما يريدن الخروج من الجامعة أثناء المساء ، يصعب عليهن قطع المقابر إلى الجهة الأخرى (شارع الوادي) ، والمقابر مظلمة خوفاً من تربص أصحاب النفوس المريضة ، فتخيلوا بين مقابر تحس فيها بالأمان ومقابر تحس فيها أنك مفقود مفقود.

حكاية :

واحد أخونا مات ، عمرو ما صلى ، قام الجماعة شالوه ووصلوا باب مسجد مقابر البكري عشان يصلوا عليهو وبعدين يدفنوه ، لكن واجهتم مشكلة ، كل ما يجوا يدخلوا الجنازة تلف شمال ويمين ، قام واحد وسوس في أضان الميت ، وبعدها على طول الجنازة دخلت المسجد ، الجماعة استغربوا ، قال ليهم أصلي قلت ليهو ياخي انت ما حتصلي هم الحيصلوا عليك !!!



رحل والد الأدب الإفريقي الحديث

رحل والد الأدب الإفريقي الحديث


شنوا أشيبي لؤلؤة إفريقيا وفاكتها التي يتمناها كل إنسان

بقلم : بدرالدين حسن علي

أتذكر الان بكثير جدا من الإمتنان والتقدير والإحترام د. علي عبدالله عباس أستاذ الأدب الإنكليزي بجامعة الخرطوم عندما لفت إنتباهنا إلى الأدب المسرحي الإفريقي ونحن طلاب بمعهد الموسيقى والمسرح ، كان د. علي على درجة عالية من الثقافة والفهم والوعي ، كان يتعامل معنا مثل أصدقائه تماما ، ويبدي إستعداده لمعاونتنا في فهم الأدب الإفريقي باللغتين الإنكليزية والعربية ، وهو الذي فتح الباب الموارب لنطارد كتاب إفريقيا أينما كانوا ، هكذا بدأت رحلتنا مع وول شوينكا النيجيري الحائز على جائزة نوبل ، وأشينوا أشيبي وكريس أباني وشيماماندا نقوزي .

لا أستطيع الحديث عن الراحل شنوا أشيبي دون ذكر وول شوينكا الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1986 ، ومن أهم نشاطاته التي أذكرها عضويته في بعثة التحقيق التي ذهبت لدارفور ولم تسمح حكومة السودان بدخول أراضيها ، وكذلك زيارته لفلسطين المحتلة وإدانته لمجازر الكيان الإسرائيلي .

شوينكا قدمنا له بالمسرح القومي بأم درمان في السبعينات مسرحية " أهل المستنقع " People Of The Swamp إخراج مهندس الديكور الفذ صلاح تركاب بمشاركة الفنان القدير إبراهيم أفريكانو ، والتي أحدثت ضجة في عالم الأدب والمسرح في السودان لعدة سنوات ، وله أيضا حصاد كونغي وأهل المستنقع والأسد والجوهرة .

أما شينوا أشيبي 1930 – 2013 أستطيع القول أنه يمثل لي لؤلؤة إفريقيا وفاكتها التي يتمناها كل إنسان ، فيرجع الفضل في معرفته ل د. على عبداله عباس وخاصة روايته الشهيرة " الأشياء تتداعى " " Things Fall Apart، رحل بهدوء الأسبوع الماضي في مدينة بوسطن الأمريكية حيث يعيش منذ فترة ، كان صوتا مهما في الرواية الإفريقية في مرحلة ما بعد الإستعمار ، وذهب بعضهم ليصفه بالوالد الحقيقي للرواية الإفريقية الناطقة بالإنكليزية ، وعلى الرغم من أهميته في السرد الروائي فلم يكتب سوى خمس روايات وأعمال نثرية أخرى أشيبي يشبه لي الطيب صالح ، وإذا كنت قد قرأت موسم الهجرة للشمال نحو خمس مرات فقد قرأت رواية " الأشياء تتداعى "خمس مرات لجمال وروعة الروايتين .

فإلى جانب الأشياء تتداعى كتب أشيبي NO longer at ease عام 1960 حيث استكشف نضال جيله مرحلة ما بعد الإستعمار ، وكتب Arrow of God " سهم الإله " ، وكتب Aman of People رجل الشعب التي إمتازت بشيء من المعاصرة وكادت أن تقتل أشيبي .

الأشياء تتداعى

الأشياء تتداعى ترجمت إلى 50 لغة تماما مثلما حدث مع موسم الهجرة إلى الشمال ، ونقدها أشهر النقاد حول العالم تماما مثلما حدث مع موسم الهجرة إلى الشمال ، وبيعت منها أكثر من 8 ملايين نسخة ، تماما مثلما حدث مع موسم الهجرة إلى الشمال ، وهي عبارة عن سرد للتراث الشعبي النيجيري المليء بحكايا الأجداد والأمهات والآباء تماما مثلما حدث في موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين ، وكان أشيبي يجلس ويسمعها من كبار السن كما ذكر في لقاءاته الإعلامية الكثيرة ، بالإضافة إلى أن د. علي عبدالله عباس قال في تحليله الرصين للرواية أنها جمعت كل ألوان الحياة الإجتماعية والعادات كرمي الأطفال التوأم في الغابة ، حيث يعتقدون بأن التوأم ملعون ، والتقاليد المتعددة والسحر والخوف من الغابة ، وتحدثت الرواية عن الحالة الإقتصادية والثقافية والسياسية والدينية حينها في نيجيريا ، وإذا قرأناها اليوم فهي إسقاط طبق الأصل لما يحدث اليوم في السودان ، إنها باختصار شديد ضياع الموروث الثقافي والإجتماعي ، ولو قدر لي إخراج عمل مسرحي اليوم لما ترددت في إختيار الأشياء تتداعى .