الثلاثاء، 17 يونيو 2008

مسرح اليوم ....مسرح الأمس


بمناسبة مرور أربعين عاما على المسرح السوداني الحديث
ذكريات لا تنسى " 4 "
نأتي الآن إلى الموسم الثاني للمسرح القومي بأمدرمان ، والذي يؤرخ له بعام 1968 / 1969 – فماذا حدث في هذا الموسم ؟
لا بد أن نذكر أهم إنجاز حققه الفكي عبدالرحمن رائد المسرح السوداني الحديث وأولئك الذين وقفوا معه في الموسم السابق ، وهم كثيرون قد ذكرت بعضهم في مقال سابق وفي مقدمتهم الفنان الكبير مكي سنادة ، ولا يقل عنه جهد الآخرين أمثال محمد عثمان وعبدالله الشفيع والحارث ، ولكن أود أن أتوقف هنا عند شخصية لعبت دورا متميزا في إنطلاقة المسرح القومي بأمدرمان ، وكثيرون لا يعرفون هذه الحقيقة ، لأن هذا الرجل ظل يعمل في صمت كل سنوات عمره التي قضاها في المسرح القومي ، شاب وجيه وهاديء وصبور وفنان وإداري من الطراز الأول يندر أن تجد له مثيل في مجال الخدمة المدنية ، وقد كان المسرح القومي في ذلك الوقت يحتاج لمثل هؤلاء الرجال ، إنه الباشكاتب فاروق أحمد علي ، ولقد دهشت كثيرا عندما إستقر بي المقام في القاهرة عام 1990 وإنخرطت في صفوف التجمع الوطني الديموقراطي وتعرفت على المرحوم القائد العسكري الفذ فتحي أحمد علي فعرفت أنه الشقيق الأكبر لفاروق.
فاروق كان الدينامو والمحرك للعملية الإدارية والتي بدونها ما كان يمكن للمسرح القومي أن يحقق أي إنجاز يذكر ، كان فاروق يعي تماما ما هو المطلوب ؟ وكان الفكي عبدالرحمن يقدره ويحبه كثيرا ، وكما قلت في بداية هذا المقال أن أهم إنجاز حققه الفكي عبدالرحمن في هذا الموسم هو تخصيص ميزانية سنوية للمسرح القومي بلغت عشرات الآلاف من الجنيهات ، وما كان من الممكن أن يتحقق ذلك لولا الدقة الشديدة التي كان يتمتع بها فاروق - وسبحان الله – إنها ذات الدقة التي تمتع بها القائد فتحي أحمد علي ، ولأن هذا المقال لا يستطيع أن يستعرض كل التفاصيل فيمكن العودة إلى كتابي " المسرح في السودان " .
وبالطبع لا بد من ذكر أولئك العمال المهرة الذين كانوا يواصلون العمل صباح مساء بتجرد ومحبة غير عادية سواء في الديكور أو الإضاءة أو الستارة وغير ذلك ، ولم تعد ذاكرتي تسعفني لتذكر كل تلك الأسماء الرائعة الذين ضحوا بكل شيء من أجل المسرح ولهم سواء كانوا أحياء أو أموات كل الشكر والتقدير .
منزل جديد
ولكن من المهم الإشارة هنا لأول إنتقال لإدارة المسرح القومي من " البدرون " على شارع النيل إلى منزل فاخر " بلغة ذلك العصر " وكان مواجها ل " قصر الصادق المهدي " بحي الملازمين وهو ذات الشارع الذي كان يسكن فيه فاروق أحمد علي ، وأذكر في صبيحة يوم 25 مايو 1969 حضرت إلى مكتبي في ذات المنزل فوجدت " العسكر " وقد حاصروا منزل الصادق المهدي ، وكان بينهم صديق دراسة ، فتوجهت إليه أسأله عن الأمر فقال لي " يا زول أبعد بعيد إنها ثورة الشعب !!!!وتلك قصة أخرى ليس هذا مكانها .
في هذا الموسم قدمت أربع مسرحيات هي على التوالي :" على عينك يا تاجر " و " ما من بلدنا " و" مأساة الحلاج " و " السلطان الحائر " .
ومن الواضح جدا أن المسرحيتين الأولى والثانية هي مسرحيات سودانية لحما ودما بينما المسرحيتين الثالثة والرابعة هما مسرحيات عربية ، وهنا تنبغي الإشارة إلى أن الفكي عبدالرحمن قرر منذ هذا الموسم أن ينوع في الأعمال المسرحية بحيث تضم مسرحيات سودانية –عربية – عالمية وإفريقية وهذا أيضا إنجاز آخر للفكي عبدالرحمن الذي كما قلنا كان فنانا ومنظرا ولاعبا سياسيا وطنيا وعربيا وإفريقيا وعالميا ، وقد وظف كل إمكانياته ودراساته لخدمة المسرح السوداني .
على عينك يا تاجر
التأليف : بدرالدين هاشم
الإخراج : الفكي عبدالرحمن
بالطبع أن ينبري الفكي عبدالرحمن لإخراج هذه المسرحية لم يكن أمرا مستغربا ، ولقد حدثني الفكي عبدالرحمن ذات نفسه قائلا " هذه آخر مسرحية أخرجها للمسرح القومي وبعدها سأعطي الفرصة للشباب الجدد " ، وهذا ما حدث فقد كانت هذه آخر مسرحية يخرجها الفكي عبدالرحمن وبعدها برزت أسماء حديدة في عالم الإخراج المسرحي ليس في المسرح القومي بأمدرمان بل في المسرح السوداني بشكل عام .
ما من بلدنا
ما من بلدنا كانت المسرحية الثانية وهي من تأليف وإخراج الفاضل سعيد الذي يواصل بهذه المسرحية نشاطه في مجال المسرح الكوميدي الذي تسيده بلا منافس
أما المسرحيات غير السودانية فقد كانتا من المسرح العربي وتحديدا من مصر ، حيث قام عثمان جعفر النصيري بإخراج مسرحية " مأساة الحلاج " لصلاح عبدالصبور ، بينما قام عوض محمد عوض بإخراج مسرحية " السلطان
الحائر " لتوفيق الحكيم .
ملحمة أكتوبر
إلى جانب هذه المسرحيات الأربع فقد شهد الموسم نشاطا آخر تمثل في إخراج مكي سنادة لملحمة أكتوبر التي ألفها الشاعر الكبير هاشم صديق رغم أن سنه في ذلك الوقت لم تكن تزيد عن 19 عاما وقام بتلحينها وأدائها الفنان المتميز محمد الأمين ومشاركة الفنانين عثمان مصطفى وخليل إسماعيل وأم بلينة السنوسي ومجموعة كبيرة من الطلاب والطالبات كانو يمثلون المجاميع أو الكورس الذي يردد فقرات الملحمة ، صحيح أن الملحمة أشهرت الشاعر هاشم صديق ، ولكنها أيضا أشهرت المسرح القومي ، وقد تشرف بحضور العرض عدد كبير من المسؤولين على رأسهم إسماعيل الأزهري ومحمد احمد محجوب وعبدالماجد أبوحسبو ، وكان هذا شرف كبير للمسرح القومي وللفنان محمد الأمين وللشاعر المرهف هاشم صديق ، والذي أصبح إسمه يلمع في الأوساط السودانية بإعتباره شاعر الثورة وشاعر الشعب ، ومنذ ذلك الوقت والفنانون يتلقفون قصائده بكل حماسة حتى أصبح شعره على لسان كل سوداني .
وقد أتيحت لي فرصة حضور جميع بروفات الملحمة التي كان يقودها الفنان الكبير مكي سنادة لدرجة أنني حفظتها مثل غيري من الألف إلى الياء كما يقولون بل كنت مع كثيرين من أبناء جيلي نرددها في كل المناسبات وحتى في حفلات الفرح .
مكي سنادة بعمله هذا إقتحم مجالا غير مطروق في السودان وهي الدراما الغنائية حيث سنرى كيف شكل ثنائيا مبدعا مع هاشم صديق في مسرحيات مثل " نبته حبيبتي " و " أحلام الزمان " .
سيدة الغناء العربي في أمدرمان
أما الحدث الثاني فقد كان حضور الفنانة الخالدة أم كلثوم إلى الخرطوم وإحيائها لحفلتين غنائيتين إمتلأت فيهما صالة المسرح حتى لم يعد يومها موطيء لقدم ، خاصة من الأشقاء المصريين الذين كانوا بالآلاف في السودان لا يقرقون بين مصر والسودان ، جاءت أم كلثوم لتغني في السودان ضمن مشروعها الكبير بدعم القضية العربية ودعم جمال عبدالناصر بعد هزيمة عام 1967 .
وقع مجيء أم كلثوم إلى السودان بردا وسلاما على أهل المسرح القومي بأمدرمان ، فقد تم تجديد " بدرون " المسرح وأدخلت الكثير من الإصلاحات والتجديدات في كل أقسامه خاصة تلك الحمامات وغرفة المكياج والملابس التي كان يفتقر لها المسرح القومي ، ثم خشبة المسرح والستارة الجديدة وتركيب إضاءة جديدة ، بل ونصب مكيفات ضخمة في صالة المسرح الكبيرة مما تسبب في إضفاء جو من الطقس البديع . وغنت أم كلثوم كما لم تغني في أية مناسبة أخرى وسهر الجمهور حتى الساعات الأولى من الصباح ، تلك أيام لن تعود وليالي من الفرح لن تسقط من الذاكرة وذكريات لا تنسى !!!!


ليست هناك تعليقات: